من “الدولار الأسود” إلى “المُجمَّد”.. لبنان في مواجهة احتيال عالمي متصاعد
تتحرّك عصابات الاحتيال اليوم عبر الحدود بسرعة تفوق قدرة كثيرين على ملاحقتها. تستغل ثغرات الأمن الرقمي، وتوترات الاقتصاد، وتطور الأدوات التقنية، لتصميم مصائد دقيقة تُحاكي الواقع وتراهن على طمعٍ عابر أو ضيقٍ شديد.
في مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري، دخل لبنان على خط هذه الظاهرة عبر تحذيرات رسمية متتالية من قوى الأمن الداخلي، ركّزت على خدع تُسوَّق تحت مسميي “الدولار الأسود” و”الدولار المُجمَّد”.
هذه الوقائع المحلية تفتح الباب على سؤال أوسع:
هل ما يجري في لبنان حالة معزولة أم نسخة محلية من موجة عالمية، وماذا تقول الأرقام عن حجم المشكلة عالميًا؟
“الدولار الأسود” في لبنان: كيف تعمل الخدعة؟
في التفاصيل، نشرت قوى الأمن الداخلي فيديو تحذيريًا افتتحته بعبارة: “لا تضيّع قرشك الأبيض بالدولار الأسود“، داعية الناس إلى الحذر من أشخاص يزعمون امتلاك كميات من أوراق الدولار النقدية المطلية باللون الأسود.
يقوم السيناريو على إقناع الضحية بأن هذه الأوراق يمكن “إعادتها” إلى حالتها الأصلية عبر سائل معيّن، مقابل أن يدفع مبالغ من الدولار الحقيقي.
يُظهر الفيديو آلية الخداع كما تُنفَّذ على الأرض: عملية تنظيف استعراضية أمام الضحية، حيث تُغمس الأوراق السوداء في سائل يوصف بأنه “سحري”، ثم تظهر ورقة دولار حقيقية كأنها نتيجة التنظيف، بينما تكون في الواقع ورقة مُحضّرة مسبقًا ضمن خدعة بصرية.
بعد ذلك قد يلجأ الضحايا إلى مكاتب صرافة لفحص الورقة التي ظهرت للتو والتأكد من أنها أصلية، فيزداد اطمئنانهم، ويقدّمون أموالًا نقدية مقابل “الرزمة” السوداء التي يتبيّن لاحقًا أنها بلا قيمة.
#انتبهوا من الدولار الأسود#قوى_الامن pic.twitter.com/hfZrTebKsp
— قوى الامن الداخلي (@LebISF) December 6, 2025
عملية احتيال شائعة خارج الحدود
لا تُعد هذه الحيلة محلية أو مرتبطة ببلد محدد، بل تُسجَّل بصيغ متقاربة في دول عديدة. فقد سُجّلت عمليات ضبط لعصابات تستخدم أسلوب “الأموال السوداء” في مناطق مختلفة من العالم، مع اختلافات بسيطة في تفاصيل العرض وطريقة الإيقاع بالضحايا.
وفي وثيقة نشرها مكتب التحقيقات الفدرالية “إف بي آي” عام 2011، وُصفت عملية الاحتيال المعروفة باسم “الأموال السوداء” بأنها من الأساليب الشائعة؛ إذ يُقدَّم للضحية ورق أسود مقوّى على أنه عملة أميركية حقيقية جرى صبغها بالأسود عبر عملية كيميائية.
تحذيرات من خدع الدولار في لبنان تتقاطع مع تقرير عالمي يظهر أن الاحتيال بات تهديدًا واسعًا يخترق الاقتصادات والثقة العامة.
يزعم المحتال أنه يحتاج إلى أموال لشراء مادة كيميائية إضافية لإزالة الصبغة وإعادة الأوراق إلى حالتها الأصلية، ثم يطلب من الضحية دفع ثمن هذه المادة مقابل حصوله على جزء من “الأوراق السوداء”.
بعد استلام المال، يسلّم المحتال ما لديه من أوراق غير حقيقية، ثمّ يختفي.
كيف تعمل خدعة “الدولار الأسود”؟
-
الخطوة 1- إغراء: “عندي دولارات مطلية بالأسود… بتتنظّف بسائل خاص“.
-
الخطوة 2 – عرض حيّ: يغمس أوراقًا سوداء في “سائل سحري”.
-
الخطوة 3 – الخدعة: يُظهر ورقة دولار أصلية مُحضّرة مسبقًا وكأنها نتيجة “التنظيف”.
-
الخطوة 4 – القبض والاختفاء: يطلب منك دولارًا حقيقيًا مقابل “الرزمة”.. ثم تختفي الأموال وتبقى أوراق بلا قيمة.
نصيحة سريعة: لا تدفع أي مبلغ مقابل “تنظيف/معالج” عملة
من نيجيريا إلى العالم: جذور خدعة “الأموال السوداء”
يعود انتشار هذا النمط من الاحتيال إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين ظهر في نيجيريا في سياق اضطراب اقتصادي حاد تزامن مع انهيار أسعار النفط عالميًا، ما انعكس مباشرة على اقتصاد يعتمد بدرجة كبيرة على العائدات النفطية.
ساهمت ظروف تلك المرحلة، من فساد واسع بعد الحقبة الاستعمارية، وتضخم مرتفع وصل إلى مستويات قياسية، وتراجع قيمة العملة، وارتفاع البطالة، في خلق بيئة دفعت بعض الفئات، بمن فيهم أشخاص من خلفيات مهنية وتعليمية، إلى الانخراط في أنشطة احتيالية بوصفها مصدر دخل.
ترتبط هذه الأساليب أيضًا بفئة أوسع من عمليات الاحتيال المالي المسبق المعروفة باسم (419)، نسبةً إلى المادة 419 من قانون العقوبات النيجيري التي تُجرّم الاحتيال.
بدأت هذه الممارسات محليًا بصيغ “الحصول على المال بالخداع“، قبل أن تتطور إلى شبكات عابرة للحدود، إذ ظهرت أنماط مشابهة خلال الفترة نفسها في دول مجاورة مثل غانا. غير أن نيجيريا بقيت تُذكر بوصفها إحدى أبرز النقاط التي انطلقت منها هذه الظاهرة وتوسعت.
خدعة “الدولار المجمد”: الرواية نفسها بصيغة جديدة
لم تقتصر تحذيرات قوى الأمن الداخلي في لبنان على “الدولار الأسود”. فبعد أيام من التحذير الأول، نبّهت إلى خدعة أخرى حملت اسم “الدولار المُجمَّد“، يقوم المحتالون فيها بإيهام أشخاص بأن لديهم أوراقًا نقدية مصدرها دول تعاني من الحروب أو الاضطرابات.
يُسوّق المحتالون رواية مفادها أن هذه الأوراق تحمل أرقامًا متسلسلة “موقوفة” من قبل الاحتياطي الفدرالي الأميركي، وبالتالي يتعذر إيداعها في المصارف، لكن تداولها بين الأفراد “لا يزال ممكنًا”.
بناءً على ذلك، يعرضون بيعها بأسعار مغرية تقلّ عن قيمتها الفعلية، مستهدفين من يبحث عن “صفقة رابحة”.
#انتبهوا من الدولار المُجمَّد…عصابات خطيرة تخدعكم#قوى_الامن#لبنان pic.twitter.com/Wr5p2vORsn
— قوى الامن الداخلي (@LebISF) December 13, 2025
ينتهي الأمر غالبًا بإحدى نتيجتين: تسليم الضحية أوراقًا مزورة أو عديمة القيمة، أو استدراجه إلى لقاء يتحول إلى عملية سلب بالقوة.
وفي هذا السياق، أشارت قوى الأمن الداخلي إلى توقيف عشرات العصابات المتورطة في تنفيذ عمليات احتيال من هذا النوع في لبنان.
“الدولار المُجمَّد”: 3 عناصر ثابتة في الرواية
-
“أرقام متسلسلة موقوفة”
-
“لا إيداع في المصارف”
-
“لكن التداول ممكن”
تنبيه: مؤشرات متكررة في خدع “الدولار المحمّد”.. رواية احتياليّة جاهزة
الوضع العالمي للاحتيال 2025: أرقام تكشف حجم الظاهرة
يتجاوز هذا المشهد حدود لبنان. فوفق تقرير “الوضع العالمي للاحتيال 2025” الصادر عن التحالف العالمي لمكافحة الاحتيال، الذي يركّز على الاحتيال عبر الإنترنت، تعرّض 57% من البالغين حول العالم لعملية احتيال خلال الاثني عشر شهرًا الماضية، فيما خسر 23% من هؤلاء أموالًا.
سجلت عمليات الاحتيال المرتبطة بالتسوق النسبة الأعلى بين الضحايا (54%)، بينما بلغت نسبة ضحايا احتيال الاستثمار 48%، وهي النسبة نفسها المسجلة لضحايا ما يُصنّفه التقرير ضمن “الاحتيال المالي غير المتوقع”.
وبحسب التقرير، كانت هذه العمليات أكثر شيوعًا في أميركا الجنوبية وإفريقيا وأوقيانوسيا، إذ خسر ما يصل إلى ربع البالغين أموالهم خلال العام الماضي.
استند التقرير إلى استطلاع شمل 46 ألف بالغ في 42 سوقًا. لفت كذلك إلى الأثر النفسي والاجتماعي للاحتيال: أفاد 69% من الضحايا بتعرضهم لضغط نفسي شديد، وأبلغ 17% عن تراجع الثقة، فيما قال 14% إن التجربة تسببت في توترات متزايدة داخل الأسرة.
يُظهر التقرير أيضًا أن كثيرًا من حالات الاحتيال لا تُبلَّغ للجهات المختصة، لأسباب متعددة، أبرزها تردد الضحية بشأن الجهة التي يجب التواصل معها أو الاعتقاد بأن الإبلاغ لن يغيّر شيئًا.
ثقة مرتفعة.. وخسائر مستمرة
على مستوى السلوك الوقائي، يؤكد 93% من البالغين أنهم يتخذون خطوة واحدة على الأقل للتحقق من مصداقية العروض. رغم ذلك، يعتمد عدد كبير منهم على مؤشرات محدودة الفاعلية، مثل التدقيق في الأخطاء الإملائية والنحوية (27%)، أو البحث عن تقييمات داخل الموقع نفسه (24%)، أو الاكتفاء بالتحقق من وجود الشركة على وسائل التواصل الاجتماعي (21%).
توضح هذه المعطيات مفارقة لافتة: ثقة مرتفعة لدى الناس بقدرتهم على اكتشاف الخداع، مقابل استمرار انتشار عمليات الاحتيال وخسارة عدد كبير من الضحايا لأموالهم، مع امتناع كثيرين عن الإبلاغ. ويخلص التقرير إلى أن الاحتيال بات تهديدًا عالميًا يطال سلامة المستهلكين والاستقرار المالي، ويقوّض الثقة المتزايدة بالاقتصادات الرقمية.
أرقام من “الوضع العالمي للاحتيال 2025”
-
57% تعرّضوا للاحتيال
-
23% خسروا أموالًا
-
أكثر الأنواع شيوعًا: التسوق 54% / الاستثمار 48% / المالي غير المتوقع 48%
في المحصلة، لا تبدو خدع “الدولار الأسود” و“الدولار المُجمَّد” سوى نسخة محلية من اقتصاد احتيال عالمي يتغذّى على هشاشة الثقة، والضغط المعيشي، وسهولة التلاعب بالصور والروايات. وبينما يعتقد كثيرون أنهم قادرون على تمييز الخداع، تُظهر الأرقام أن الاحتيال يسبقهم بخطوة، مستفيدًا من تردّد الضحايا في الإبلاغ، ومن قناعة شائعة بأن “لا جدوى” من الشكوى.
في لبنان، حيث تتداخل الأزمات مع البحث اليومي عن فرص أقل كلفة أو أسرع ربحًا، تصبح الوقاية أبسط وأهم: الشكّ في أي عرض يتضمن معالجة سحرية للمال، أو خصومات غير منطقية، أو حججًا تقنية غير قابلة للتحقق. وفي زمن تتقدّم فيه العصابات بخيالها وأساليبها، تبقى القاعدة الأكثر فعالية هي الأكثر بداهة: ما يبدو جيدًا إلى حد لا يُصدَّق… غالبًا ليس حقيقيًا.
