البحث عن الأحبة بين صور قيصر.. عندما فضح أكبر تسريب جرائم نظام الأسد

يتحرك الكونغرس الأميركي نحو إلغاء قانون قيصر، بعد عام على سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
قيصر، القانون الذي فُرضت بموجبه عقوبات صارمة على النظام السوري السابق لمعاقبته على قتل المدنيين، كان قد أُقِرّ بعد تسريب 55 ألف صورة توثّق التعذيب وقتل المعتقلين في السجون.
وقيصر أيضًا هو الاسم الذي عُرف به رجل سوري كشف للمرة الأولى عن هويته في فبراير/ شباط الماضي، معرّفًا عن نفسه بأنه المساعد أوّل فريد المذهان.
كان المذهان رئيسًا لقسم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، وعقب اندلاع الثورة السورية، باتت مهمته “تصوير جثث ضحايا الاعتقال“.
هؤلاء الضحايا كان بينهم شيوخ ونساء وأطفال، “تمّ اعتقالهم على الحواجز العسكرية والأمنية في مدينة دمشق، ومن ساحات التظاهر التي كانت تنادي بالحرية والكرامة“.
انشقّ المذهان، المنحدر من درعا جنوبي سوريا، بعدما أرجأ خطوته “لتجميع أكبر عدد من الصور التي توثّق وتدين أجهزة النظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق المعتقلين”، وفق ما يقول.
“أوامر التصوير وتوثيق جرائم نظام بشار الأسد كانت تصدر من أعلى هرم السلطة للتأكد من أن القتل ينفذ فعليًا”.
العلاقة بين سامي وقيصر
المهندس المدني أسامة عثمان، الذي كان يقيم في مدينة التل بريف دمشق الشمالي، جمعته بفريد المذهان أو “قيصر” علاقة وثيقة منذ عام 2000 تقريبًا؛ ربع قرن من العلاقة الوثيقة، وفق ما يقول.
حمل أسامة اسمًا مختلفًا منذ عام 2014 وحتى هروب بشار الأسد، هو “سامي“، وذلك لضمان أمنه وخصوصية العمل الذي قام به، وحمايته عند تداول اسمه في الملفات القضائية واللقاءات الدبلوماسية.
يؤكّد سامي أن أحدًا لا يستطيع الادعاء بوجود تخطيط مسبق لتجميع الصور، إذ بدأ الأمر تقريبًا في مايو/ أيار 2011.
“قيصر.. الرجل والقانون”
-
مصوّر عسكري في الشرطة العسكرية بدمشق، المساعد أوّل فريد المذهان.
-
مهمته الرسمية: تصوير جثث المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب.
-
سرّب نحو 55 ألف صورة لضحايا التعذيب والقتل في سجون النظام,
-
.شكّلت الصور أساسًا لقانون عقوبات حمل اسمه: “قانون قيصر”.
يروي أن قيصر هاتفه حينها وقال له إنه يريده لأمرٍ مهم لا يستطيع قوله عبر الهاتف، فذهب إليه.
هناك أعلمه قيصر بأن صورًا ترده تحمل آثار تعذيب شديد، ولا تتطابق مع ما هو مكتوب في التقرير الطبي المرفق، مؤكّدًا أنه لا يريد أن يكون شريكًا في الصمت عن هذه الجرائم التي يرتكبها نظام الأسد.
يلفت عثمان إلى أن قيصر كان يفكّر بالانسحاب من الجيش؛ أن يتركه بأيّ طريقة ممكنة.
رؤية صور قيصر للمرة الأولى تثير في النفوس مشاعر الحزن والرعب والقلق؛ فالصور شيء آخر غير الأخبار المتداولة عن التعذيب
ويردف أنه كان بدوره يرى أهالي معتقلين يبحثون عن أبنائهم في فروع الأمن والقصر العدلي وسجن عدرا، ويعرضون الأموال لمعرفة ولو معلومة واحدة عنهم.
وبينما كان “سامي” يدرك أن المعتقلين “استشهدوا” ويملك صور جثثهم، إلا أنه لم يكن قادرًا على الكشف عن ذلك لأهاليهم خلال وجوده في سوريا.
فلو فعل ذلك، كان سيُسأل كيف علم بالأمر، وسيفتضح أمر عملية توثيق الجرائم، ويتعرّض عدد كبير من الأشخاص للخطر، وفق ما يقول.
استمرت عملية التوثيق حتى نهاية الشهر الثامن من عام 2013، حين أصبح الخطر المترتّب على بقاء سامي وقيصر في سوريا كبيرًا جدًا، فكان قرار الخروج من البلاد.
أحباء في صور قيصر
لم تكن صور قيصر مجرّد وثائق جنائية صامتة، بل تحوّلت مع الوقت إلى مرايا مفتوحة لوجوه غائبة، وأسماء كانت يومًا تناديها أمهات من خلف الأبواب المغلقة.
في تلك الصور، لم يعثر السوريون على جثامين أحبّتهم فقط، بل على أجوبة مؤلمة لأسئلة ظلّت معلّقة لسنوات.
من بين آلاف القصص، تبرز حكايات ريهام وولاء وفادي، كعينات موجعة من بحث طويل انتهى عند صورة بلا نبض.
-
شقيق ريهام.. خرج إلى صلاة العصر ولم يعد
ريهام، التي تتحدث عن العثور على صورة شقيقها بين صور قيصر، تقول إنه كان قد اختفى قبل 13 عامًا، ووجدت صورته طريقها إليهم عام 2017.
كان شقيق ريهام يملك متجرًا للبقالة ويخطط للزواج، ومع بدء الحرب أقفل محله والتزم منزله، ولم يكن يخرج منه إلا للصلاة في المسجد.
ذات يوم خرج لتأدية صلاة العصر ولم يعد. اعتُقل من جامع خولة بنت الأزور في حي التضامن بدمشق.
كان ذلك في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2012؛ تاريخ تذكره ريهام جيدًا وستظل تذكره دائمًا.
-
ولاء ورياض.. حلم الطب الذي انتهى في الزنزانة
شابة ثانية، هي ولاء الحمصي، تقول إن شقيقها كان طالبًا في صف البكالوريا، عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011.
عن رياض تشير إلى أنه نجح في الامتحانات وكان يحلم بأن يصبح طبيبًا، وكحال “جميع الشرفاء وشباب الثورة السورية” عاهد الله على قول كلمة حق وإزالة هذا النظام الفاسد.
اعتُقل رياض في 8 مارس/ آذار 2013، وكان حينها في التاسعة عشرة من عمره. وعثرت عائلته على صورته عام 2024 ضمن صور قيصر، قبل أشهر فقط من سقوط نظام الأسد، وصادف ذلك اليوم ذكرى ميلاده.
وفق ما تقول، قُتل رياض بعد 12 يومًا من اعتقاله، وفي حين كانت عائلته على يقين بوفاته، بقي الأمل موجودًا ولو بشكل ضئيل.
سعت العائلة لسماع صوته على الأقل، ومنحتها الكثير من “الوساطات” أملًا بإمكانية إطلاق سراحه في حال دفع المال، لكنها لم تصل إلى أي نتيجة بعد السراب والأوهام والابتزاز.
أحزنت الصور ولاء كثيرًا، لكنها قدّمت لها خاتمة للبحث المستمر “بفضل قيصر”، فيما ما تزال آلاف العائلات الأخرى تنتظر معرفة مصير أبنائها المعتقلين.
-
محمد ديب.. من مدرج الجامعة إلى فرع الخطيب
محمد ديب العبار كان في الحادية والعشرين من عمره عندما اعتقله نظام الأسد في 23 مايو/ أيار 2013، بعد 3 أيام من ذكرى مولده.
يقول فادي إن شقيقه محمد، الذي شارك في المظاهرات الشعبية وكان ناشطًا بين الثوار، تمّ العثور على صورته بين صور قيصر.
كان محمد في فرع الخطيب 251، وكانت عائلته على يقين بأن مسألة اعتقاله مرتبطة باتحاد الطلبة واللجان التابعة له في كل كلية.
يشرح فادي أن ذلك الاتحاد كان على صلة بالفرع 251، الذي زُجّ فيه معظم من تمّ اعتقالهم من الجامعات.
يستذكر كيف بحث هو وشقيقه الآخر عن صورة محمد بين صور قيصر، وكيف وصلتهما عدة صور لجثته من زوايا مختلفة، فتثبّتوا من هويته.
تعرّضت العائلة، وفق ما تقول، للابتزاز من خلال إيهامها بمعرفة مكان وجود نجلها، وغالبًا ما تمّ ذلك من قبل أحد عناصر الفرع الأمني.
مشاعر حزن ورعب وقلق
يدرك سامي، أو أسامة عثمان، أن رؤية صور قيصر للمرة الأولى تثير في النفوس مشاعر الحزن والرعب والقلق. فالسوريون كانوا يعلمون بعمليات التعذيب التي يرتكبها النظام، لكن وقع الصور مختلف عمّا يسمعونه.
كان أهالي المعتقلين يبحثون عن أبنائهم في الفروع الأمنية والقصر العدلي وسجن عدرا، بينما كانت صور جثثهم محفوظة في أدراج أجهزة النظام
ورغم صعوبة اتخاذ قرار تجميع هذه الصور وتوثيقها، يؤكّد عثمان أنّ ذلك كان الخيار الصائب، على الرغم من الخطر الكبير الذي هدّد بيته وبيوت أفراد عائلته في تلك الفترة، مع اضطراره إلى توزيع المواد الموثَّقة على أكثر من جهاز لحمايتها من المصادرة أو الإتلاف.
يتحدّث عثمان عن “رحلة الموت” التي كان يخوضها المساعد فريد المذهان يوميًا، متنقّلًا بين مقر عمله في منطقة القابون بدمشق، حيث تُلتقط الصور داخل أقبية الشرطة العسكرية، وبين منطقة التل حيث يقيم عثمان.
في تلك الرحلة، كان المذهان يحمل معه نسخًا من الصور والبيانات ليسلّمها إلى شريكه في عملية التوثيق، في مسارٍ يومي محفوف بالمخاطر الأمنية على الحواجز والطرقات.
كانت الآمال أن يحدّ اطّلاع العالم على الفظائع التي يرتكبها نظام بشار الأسد بحق السوريين من قدرته على ارتكاب المزيد منها
كيف خرج قيصر من سوريا؟
كانت لحظة الخروج من سوريا لحظة شديدة الخطورة، لكنّها، كما يروي أسامة عثمان، كانت السبيل الوحيد لمواجهة الأخطار المباشرة وحماية الأشخاص والبيانات في آن معًا.
كانت الآمال أن يحدّ اطّلاع العالم على الفظائع التي يرتكبها نظام بشار الأسد بحق السوريين من قدرته على ارتكاب المزيد منها، وهو ما يعلّق عليه سامي قائلاً:
“لم يكن الأمر فيما بعد كما كنا نأمل، لكنها كانت خطوة أولى في طريق طويل”.
من غرف التعذيب إلى قاعات المحاكم
– تسلسل زمني
-
2011–2013: التقاط الصور داخل الفروع الأمنية والشرطة العسكرية في دمشق.
-
حتى أغسطس/ آب 2013: استمرار التوثيق سرًا وتزايد المخاطر على قيصر وسامي.
-
الخروج من سوريا: تهريب الصور والبيانات لحمايتها من المصادرة أو الإتلاف.
-
فحص الأدلة في الدوحة عبر مكتب حقوقي مكلف من الحكومة القطرية.
-
صدور تقرير حقوقي يوثّق التعذيب الممنهج في سجون النظام.
-
استخدام الصور والأدلة في مسارات قضائية أوروبية لمحاكمة مسؤولين متورطين في جرائم حرب.
من ملف سرّي إلى قضية دولية
بعد الخروج من سوريا، حرص فريق العمل على عدم الظهور العلني أو استخدام أسمائهم الحقيقية، إدراكًا لحساسية الملف وخطورته على من يحمله.
كان عثمان يرى ضرورة نقل هذا الملف من كونه مجموعة وثائق يحتفظ بها عدد محدود من الأشخاص يمكن استهدافهم بسهولة، إلى قضية تحظى باهتمام دولي وتتولاها مؤسسات حقوقية وقانونية.
وقد ظهرت الأصداء الأولى حين كلّفت الحكومة القطرية مكتبًا حقوقيًا مختصًا بفحص الأدلة التي جمعتها مجموعة قيصر، وعُقد لقاء مع فريد المذهان في الدوحة، وكان أسامة عثمان حاضرًا هناك.
أسفر ذلك عن صدور تقرير موسّع كشف عن عمليات تعذيب بشعة وقاسية في سجون النظام السوري ومعتقلات الأفرع الأمنية، وشكّل صدمة كبيرة للمهتمّين بالشأن السوري ولعدد من المنظمات الحقوقية الدولية.
شهادة أسامة عثمان ومسار المحاسبة
يلفت عثمان إلى أن الصدى الحقيقي لصور قيصر بدأ يتبلور بعدما أدلى بشهادته أمام جهات قضائية وحقوقية عدّة، وبدأ مسار قانوني استُخدمت فيه المواد التي قُدّمت لتوثيق الجرائم.
ما يجمع الفروع الأمنية في عهد النظام السوري السابق هو التجويع الشديد والضرب والإهمال الطبي، وصولًا إلى التعذيب حتى الموت
كما يتحدث عن الشهادات التي أدلى بها في محاكمات شملت عددًا من رموز النظام السوري والمسؤولين الأمنيين الذين غادروا إلى أوروبا، حيث أُدين بعضهم بارتكاب انتهاكات ضد الإنسانية وجرائم حرب استنادًا إلى الأدلة البصرية والوثائق المرافِقة لها.
مع ذلك، يعترف بأنه شعر في مراحل كثيرة بالإحباط، نتيجة لا مبالاة المجتمع الدولي في كثير من المحطات، وإصرار النظام على المضيّ قدمًا في سلوكه الإجرامي، مستخدمًا الأساليب نفسها في الاعتقال والتعذيب وتصوير الضحايا، وكأن شيئًا لم يتغيّر.
صورة لا تفارق الذاكرة
لم تسلم نفس أسامة عثمان من الأثر العميق لصور قيصر نفسها. فهو يخصّ بالذكر صورة كانت “لشهيد ينظر إلى السماء وفمه مفتوح، وكأنه يطلق صرخته الأخيرة التي لم يسمعها أحد سوى الله“، وفق تعبيره.
يشير عثمان إلى أن ملامح ذلك الرجل كانت تشبه ملامح والده، وأن هذه الصورة تحديدًا لا تفارق مخيلته أبدًا، بعدما تحوّلت بالنسبة إليه إلى رمز مختصر لكل الضحايا المجهولين الذين لا يُذكر من حكاياتهم سوى رقم فرعٍ أمني أو تاريخ اعتقال.
صور قيصر تكشف التعذيب والجرائم في سجون النظام السوري│تقرير من أرشيف التلفزيون العربي
فروع الموت وأساليب التعذيب
لم يلحظ أسامة عثمان فرقًا كبيرًا في أساليب التعذيب التي اعتمدها نظام الأسد بين فرع أمني وآخر، إذ تكاد الأدوات والطرق أن تتطابق، بحسب ما يقول، مضيفًا أتّ التفاوت كان فقط في عدد الضحايا الذين قضوا في كل فرع.
يشير إلى أن الفرع 227 يأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد الضحايا الذين قُتلوا تحت التعذيب، بنحو 30% من إجمالي من وثّقت صورهم، بينما احتل الفرع 215، المعروف بسرية المداهمة والاقتحام، المرتبة الأولى في هذا الترتيب الدموي.
ويلفت إلى أن ما يجمع هذه الفروع في عهد النظام السوري السابق هو التجويع الشديد، والضرب المتواصل، والإهمال الطبي المتعمّد.
ويؤكّد أن التعذيب المستمر حتى الموت لم يكن أداة عقاب فحسب، بل كان فعلًا مقصودًا للتلذّذ بالقتل، ورسالة يراد توجيهها إلى السوريين مفادها أن من يقع في قبضة هذه الأجهزة يُسحق نفسيًا ومعنويًا، وصولًا إلى القضاء على جسده أيضًا.
“فروع الموت في نظام الأسد”
-
الفرع 215 (سرية المداهمة والاقتحام): النسبة الأكبر من الضحايا.
-
الفرع 227: ثاني أكبر عدد من الضحايا (نحو 30%).
-
الفرع 251 (الخطيب): أحد أبرز الفروع التي مرّ بها ناشطون جامعيون مثل محمد ديب.
أمام هذا الكمّ من الشهادات والصور والفروع الأمنية المتورّطة، يبرز سؤال المسؤولية القانونية عن الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج إطار القانون في عهد نظام الأسد.
فمن يتحمّل هذه المسؤولية؟ وكيف يمكن ملاحقة مرتكبي تلك الجرائم أمام القضاء الدولي أو الوطني في الدول التي تستضيفهم؟
الإجابات وأكثر، يقدّمها المحامي عبد الناصر حوشان في الحلقة المرفقة من برنامج “كنت هناك”.



