أبعاد

العدالة الانتقالية على طريقة رواندا.. من الإبادة الجماعية إلى المصالحة

في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، زار وفد سوري من “هيئة العدالة الانتقالية” المُشكَّلة حديثًا دولة رواندا للاطلاع عن قرب على تجربتها الرسمية في تجاوز الحرب الأهلية والإبادة الجماعية، ولبحث إمكانية “تطوير نموذج وطني يستند إلى التجارب الدولية الرائدة، ودراسة التجربة الرواندية في تجاوز آثار الإبادة الجماعية وبناء السلام المجتمعي”، وفق ما نقلته وسائل الإعلام.

وجاءت الزيارة بناءً على نصيحة دولة عربية مهتمة بالملف السوري وتربطها علاقات جيدة بكيغالي، في محاولة للمساعدة على “مأسسة” أي عملية تصالحية سورية مقبلة، إن كُتب لها أن ترى النور. فبين المأساتين السورية والرواندية أوجه تشابه لافتة، كما أن بينهما اختلافات جوهرية لا تقلّ أهمية.

ويُشكّل عنصرا “الأقلية” و”الأغلبية” محورًا مشتركًا في الحالتين؛ غير أنّ هذا الانقسام يقوم في رواندا على جذورٍ اجتماعية-طبقية أكثر منه إثنية أو دينية. ومن خلال النظر إلى التجربة الرواندية، بما حققته من نجاحات، يبدو أن هذين المحورين ما زالا حاضرين بقوة في الوعي الشعبي وشكل السلطة معًا، بما يبرّر كثيرًا من الريبة تجاه المستقبل في البلدين، خاصة في ظل استبعاد أي صيغة حكم ديمقراطي جماهيري حقيقي في سوريا حتى الآن، وعدم تطبيقها فعليًا في رواندا نفسها.

في ما يلي قراءة للتجربة الرواندية من خلال أعمال باحثين ومنظمات دولية، على أن يترك الحكم للقارئ في تقدير أوجه الشبه والاختلاف، وإمكان اقتباس هذه التجربة “سوريًا” والنجاح في تكييفها، على نحوٍ أفضل مما آلت إليه شعارات أخرى من قبيل “تحويل سوريا إلى سنغافورة” التي رفعها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في دافوس مطلع العام الجاري، من دون أن يُستكمَل ذلك برؤية جادة لمفهوم الحكم نفسه.

رواندا.. دراسة حالة عميقة

تُعدّ جمهورية رواندا اليوم واحدةً من أعمق دراسات الحالة في إعادة الإعمار الوطني، بكل ما تحمله هذه العملية من إنجازات وثغرات. فبعد الإبادة الجماعية عام 1994 ضد أقلية “التوتسي”، وهي حملة قتل منظَّمة غير عشوائية أودت بحياة ما يقارب مليون شخص في نحو مئة يوم فقط، وجدت البلاد نفسها أمام أزمة وجودية: نسيج اجتماعي ممزّق، وانخفاض مهول في عدد السكان، وبنية تحتية مدمَّرة، ونظام سياسي منهار، وقضاء عاجز بالكامل تقريبًا.

جاء الرد الرسمي عبر عملية مصالحة وطنية شاملة قادتها حكومة المنتصر، أي “الجبهة الوطنية الرواندية” التي تشكّلت وتسَلَّحت في أوغندا من أبناء أقلية التوتسي اللاجئين منذ ستينيات القرن الماضي. سعت هذه القيادة إلى تركيب مزيج جريء بين العدالة التقليدية ومشاريع بناء الأمة الحديثة، لا يكتفي بوقف العنف وفرض سلامٍ هش، بل يطمح إلى تأسيس هوية رواندية موحدة تمنع تكرار الفظائع في المستقبل.

إرث استعماري من الانقسام والنزعة الطبقية

يصعب فهم مشروع المصالحة، بل المشروع الوطني الرواندي برمّته بعد الإبادة، من دون العودة إلى السياق التاريخي العميق الذي أفضى إلى تلك الكارثة. فمذبحة عام 1994 لم تكن انفجارًا مفاجئًا لعنف “قبلي”، بل تتويجًا مأساويًا لعقود من الانقسام المُمَنهج والكراهية السياسية التي غذّتها القوى الاستعمارية ثم أنظمة ما بعد الاستقلال.

يمكن النظر إلى تلك المذبحة بوصفها “تتويجًا دمويًا” لدورات عنف مُتكرّرة لم تتوقّف خلال تاريخ رواندا الحديث بين الطرفين خلال وجود الاستعمار الأوروبي ومن بعده.

فقبل الحضور الأوروبي، كانت أغلبية “الهوتو” من الفلاحين، وأقلية “التوتسي” من مربي الماشية، فئتين اجتماعيتين-اقتصاديتين أكثر منهما جماعتين عرقيتين صارمتين، مع قدر من السيولة والتزاوج بينهما. لكن مع الحكم الألماني ثم البلجيكي بعد الحرب العالمية الأولى، تحوّل هذا التمايز تدريجيًا إلى تصنيف إثني صارم. فقد انتهج البلجيكيون سياسات تفضيل واضحة لمصلحة التوتسي، منحوهم بموجبها الأفضلية في الإدارة والتعليم والوصول إلى الموارد، ما زرع بذور استياء عميق لدى أغلبية الهوتو.

مذبحة عام 1994 لم تكن انفجارًا مفاجئًا لعنف “قبلي”، بل تتويجًا مأساويًا لعقود من الانقسام المُمنهَج والكراهية السياسية التي غذّتها القوى الاستعمارية ثم أنظمة ما بعد الاستقلال

وكما يوضح محمود ممداني في كتابه “عندما يصبح الضحايا قتلة”، فإنّ السياسات الاستعمارية “أضفت طابعًا عنصريًا” على ما كان في السابق هويات اجتماعية مائعة، فحددت من هو “أصلي” ومن هو “وافد”، واستُخدمت هذه التصنيفات لاحقًا لخدمة أغراض سياسية. ومع تصاعد موجة التحرر في أواخر خمسينيات القرن الماضي، انقلب البلجيكيون على حلفائهم القدامى فجأة، وحوّلوا دعمهم إلى أغلبية الهوتو، ما أجّج ثورة 1959 التي أطاحت بالملكية التوتسية، وارتُكبت خلالها مجازر واسعة، ودُفع مئات آلاف التوتسي إلى المنفى، خصوصًا في أوغندا المجاورة.

وفي عام 1962 نالت رواندا استقلالها وأُلغي النظام الملكي، وسيطرت أغلبية الهوتو على الحكم، لكنّ موجات العنف ضد التوتسي لم تتوقف. ويشير إياد الجعفري في “العربي الجديد” (2025) إلى أن تلك المرحلة أفرزت “موجة أخرى كبيرة من لاجئي التوتسي بلغ عددها قرابة نصف مليون رواندي بحلول ثمانينيات القرن العشرين”.

حرب الإبادة في رواندا كانت “تتويجًا دمويًا” لدورات عنف مُتكرّرة لم تتوقّف خلال تاريخ البلاد الحديث- غيتي

مأسسة الكراهية والطريق إلى الإبادة الجماعية

كرّست حكومات ما بعد الاستقلال بقيادة الهوتو هذا الانقسام. ظلّت بطاقات الهوية تُعرِّف المواطنين صراحة بأنهم “هوتو” أو “توتسي” أو “توا”، وفرضت القيود على حصة التوتسي في التعليم ووظائف الدولة. ومع مرور الوقت رسخت أيديولوجيا كراهية رسمية، غذّتها وسائل الإعلام الحكومية والمنشورات المتطرفة، قدّمت التوتسي على أنهم “غرباء أزليون” و”صراصير” وتهديد وجودي لأمة الهوتو.

هذا التجريد المتدرج من الإنسانية، الذي صوّره فيليب غوريفيتش بفظاعة في كتابه “نريد أن نُبلغكم أننا سنُقتل غدًا مع عائلاتنا” (1998)، مهّد نفسيًا واجتماعيًا للإبادة الجماعية. فجاء إسقاط طائرة الرئيس جوفينال هابياريمانا، وهو من الهوتو، في 6 أبريل/نيسان 1994 ليشكّل الذريعة المباشرة لتفعيل خطة قتلٍ كانت معدّة سلفًا؛ إذ شنّت القوى المتطرّفة في معسكر الهوتو حملة إبادة واسعة على التوتسي وعلى الهوتو المعتدلين في عموم البلاد، شاركت فيها مليشيات، وأجهزة رسمية، وقطاعات واسعة من السكان تحت تأثير التحريض السياسي والطبقي.

خلّفت سرعة العنف ووحشيته ونطاقه ما بين 800 ألف ومليون قتيل، غالبيتهم الساحقة من التوتسي، خلال أسابيع قليلة، مع توقيف أكثر من 120 ألف مشتبه بالمشاركة في الإبادة، تكدّسوا في سجون مكتظة، ما خلق مأزقًا قضائيًا غير مسبوق. في تلك الأجواء تقدمت قوات “الجبهة الوطنية الرواندية” بقيادة بول كاغامي من قواعدها في أوغندا، واستغلت حالة الفوضى لتسيطر على العاصمة وتؤسس لنظام جديد قوامه هيمنة الأقلية التوتسية من موقع المنتصر.

ركائز العدالة الانتقالية في عهد كاغامي

أمام دولة مدمَّرة وشعب مثخن بالصدمة وجهاز قضائي مشلول، اختارت الحكومة الرواندية نهجًا براغماتيًا هجينًا للعدالة والتعافي، يجمع بين آليات تقليدية وأدوات بناء الدولة الحديثة.

وللتعامل مع الكم الهائل من القضايا، الذي كان سيستغرق عقودًا أمام المحاكم العادية، أعادت الدولة إحياء نظام تقليدي لحل النزاعات المجتمعية يُعرف باسم “غاكاكا” (وتعني “أرض العشب”)، لكنها أعادت تشكيله جذريًا. عملت هذه المحاكم الشعبية اللامركزية بين عامي 2002 و2012 ووضعت ثلاثة أهداف رئيسية: تسريع البت في قضايا الإبادة، وكشف أكبر قدر ممكن من الحقيقة حول ما جرى، وتعزيز المصالحة على مستوى القاعدة المجتمعية.

تقديرات “لجنة الوحدة والمصالحة الوطنية” تشير إلى أن محاكم غاكاكا نظرت في نحو مليون ونصف المليون قضية، وحسمت ما يقرب من 90% من الجرائم المرتبطة بالإبادة التي كانت عالقة في السجون والنظام القضائي العادي. ترأس هذه المحاكم قضاة منتخبون من المجتمع المحلي، ونظرت في جرائم تراوحت بين تخريب الممتلكات والمشاركة الفعلية في القتل، ما وفر شكلًا من العدالة كان يستحيل على المحاكم الرسمية وحدها إنجازه.

أدت حرب الإبادة في رواندا إلى مقتل ما يُقدّر بـ 800 ألف إلى مليون شخص من أقلية “التوتسي”- غيتي

ركن أساسي في هذه التجربة كان التركيز على الحقيقة والاعتراف العلني؛ إذ شُجّع الجناة على الاعتراف الكامل بما ارتكبوه، وإبداء الندم، والكشف عن أماكن دفن الضحايا، مقابل تخفيف العقوبة. كثيرًا ما كان لهذا الاعتراف تأثير عميق في عائلات الضحايا، إذ منحهم، ولو جزئيًا، معرفةً بما جرى لأحبّتهم. ويصف الباحث فيل كلارك في دراسته الإثنوغرافية “محاكم غاكاكا، العدالة والمصالحة بعد الإبادة الجماعية في رواندا”، هذه العملية بأنها “شكل من العدالة التصالحية… يواجه فيها أفراد المجتمع الجناة وجهًا لوجه، بما يفتح الباب أمام الحوار والتسامح المشروط”.

مع ذلك، لم تسلم غاكاكا من انتقادات حقوقية حادة. فقد رأت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها لعام 2011 بعنوان “العدالة معرّضة للخطر” أن النظام “فضّل السرعة على ضمانات المحاكمة العادلة”، مشيرةً إلى غياب المحامين عن معظم الجلسات، واعتماد واسع على شهادات السماع، وإمكان تحيّز القضاة المنتخبين بحكم علاقاتهم داخل المجتمعات الصغيرة.

“أنا رواندي”: صناعة هوية وطنية جديدة

بالتوازي مع مسار المحاسبة، أُنشئت عام 1999 “لجنة الوحدة والمصالحة الوطنية” بوصفها الذراع الرئيسة لمعالجة الآثار الاجتماعية والنفسية غير القضائية للإبادة. تتمثل مهمتها في تعزيز هوية وطنية جامعة، والقضاء على “أيديولوجية الإبادة”، ومحاربة الانقسام.

لا تكتفي حملة “أنا رواندي” بالدعوة إلى تجاوز تسميات هوتو وتوتسي وتوا، بل تحاول بناء هوية وطنية جديدة تُعرِّف الفرد أولًا بوصفه روانديًا يستند إلى تاريخ وقيم مشتركة

انطلقت تحت إشرافها حملة “أنا رواندي” التي تحضّ على الابتعاد عن التسمية العرقية (هوتو/توتسي/توا)، وتدعو إلى تعريف الذات أولًا وأخيرًا بأنها “رواندية”، انطلاقًا من تاريخ مشترك وقيم مشتركة. كما أنشأت السلطات معسكرات “إنغاندو” لإعادة التأهيل؛ وهي معسكرات إلزامية تستهدف طيفًا واسعًا من الفئات، من مدانين أُفرج عنهم إلى طلاب جامعات وموظفين كبار، وتتضمن برامج مكثفة عن تاريخ البلاد، والهوية الوطنية، وأهمية التضامن الاجتماعي.

وإلى جانب ذلك، تشجّع اللجنة مشاريع “قرى المصالحة”، حيث يعيش الناجون والجناة التائبون جنبًا إلى جنب في تجمعات جديدة، يعملون فيها ضمن تعاونيات اقتصادية مشتركة، في محاولة لترجمة المصالحة إلى ممارسة يومية ملموسة.

إنجازات واضحة وتحديات عميقة

على الرغم من هذا البناء المؤسسي الواسع، تبقى المصالحة الرواندية عملية هشّة ومتواصلة، تحفّها عقباتٌ كبيرة وانتقاداتٌ مستمرة.

أحد أبرز هذه الانتقادات يتصل بما يُسمّى “السردية المنتصرة”. فبينما أُخضِع المتهمون بالمشاركة في الإبادة من معسكر الهوتو لشبكة متكاملة من المحاكم، من الدولية إلى المحلية، تقول منظمات حقوقية إن الجرائم التي نُسبت إلى “الجبهة الوطنية الرواندية” خلال المعارك وبعدها لم يتمّ التحقيق فيها بالجدية نفسها. فقد أشارت تقارير “هيومن رايتس ووتش” ووثائق للأمم المتحدة مرارًا إلى أن الحكومة “تقاعست إلى حد كبير عن محاسبة قواتها على الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت عام 1994 وفي السنوات التالية”، ما يعزز شعورًا بأن العدالة السائدة هي “عدالة المنتصر”.

ويرى باحثون أن هذه الانتقائية تُسهِم في تكريس شعور بالذنب الجماعي لدى الهوتو، وتغذي في الوقت نفسه إحساسًا دفينًا بالمظلومية لدى قطاعات واسعة، بما يقوّض مبدأ المساءلة المتساوية، ويُبقي بعض الجراح مفتوحة تحت سطح الهدوء الظاهر.

إلى ذلك، أدت الحاجة السياسية الملحّة للوحدة بعد الإبادة إلى تبنّي نهجٍ شديد المركزية من أعلى إلى أسفل في إدارة المصالحة. فالقوانين التي تجرّم “أيديولوجية الإبادة” و”خطاب الكراهية والانقسام” ساهمت في الحد من مظاهر التحريض، لكنها تعرّضت أيضًا لانتقادات تتهمها بتقييد النقاش العام حول سياسات الحكومة، وإسكات الروايات التاريخية المخالفة للسردية الرسمية. وبالنسبة لكثيرين، تُنتج هذه الوضعية ما يشبه “سلام الطاعة”، أكثر من كونها مصالحة عميقة قائمة على حوار حرّ.

صدمة بين الأجيال وطريق شفاء طويل

يبقى التعافي النفسي والاجتماعي أكبر التحديات وأكثرها استعصاءً؛ فهو لا ينتهي بانتهاء المحاكم أو صدور الأحكام. فصدمة 1994 ما زالت تلقي بثقلها على أجيال كاملة. الناجون يعانون من معدلات مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق، تعيد إشعالها في أحيان كثيرة عودة الجناة إلى قراهم أو تكرار روايات الماضي.

تؤكد دراسات ومنظمات دولية، بينها “إنترناشونال أليرت” في تقرير عام 2012، أن “الجروح العميقة التي خلّفتها الإبادة تجعل من التعافي النفسي مهمة جيلية تمتد لسنوات طويلة بعد انتهاء المحاكمات”. في المقابل، تواجه عائلات المدانين وصمةً متوارَثة وشعورًا بالذنب، ينعكس في عزلة اجتماعية وصعوبات اقتصادية، ويجعل إعادة دمج من أُفرج عنهم من الجناة مهمة صعبة ومشحونة بالمخاطر.

يضاف إلى ذلك غياب سياسة وطنية شاملة للتعويض المادي عن الخسائر، رغم التركيز على الغفران والتسامح في الخطاب الرسمي. فحين لا يقترن الاعتراف والتسامح بإعادة بناء سبل العيش وتعويض الممتلكات المدمَّرة، يبقى عبء النهوض من جديد واقعًا بالكامل تقريبًا على عاتق الضحايا، ما يضعف مشاركتهم الفعلية في مسار المصالحة.

متحف الإبادة الجماعية في رواندا.. شاهد على صمت المجتمع الدولي – تقرير وهيبة بوحلايس / كيغالي 
(من الأرشيف – يناير 2020)

نموذج براغماتي في رحلة لم تكتمل

تُمثّل المصالحة الوطنية في رواندا استجابةً براغماتية غير مسبوقة لكارثة وطنية مروّعة. فمن خلال تكييف نظام غاكاكا التقليدي، وتفعيل برامج إعادة التأهيل والهوية المشتركة عبر “لجنة الوحدة والمصالحة”، وبناء رواية وطنية موحّدة، نجحت البلاد في تحقيق قدر ملحوظ من الاستقرار، وتخفيف العبء القضائي الهائل، والانطلاق في مسار إعادة إعمار اقتصادي ومؤسسي. والتحوّل من بلد يُستحضَر اسمه مقرونًا بالإبادة الجماعية إلى بلد يُقدَّم غالبًا كنموذج للتنمية السريعة والانضباط الإداري، تحقّق إنجاز لا يمكن إنكاره.

مع ذلك، تبقى هذه الرحلة غير مكتملة، محكومة بتوازن دقيق بين الاستقرار من جهة، وغياب عدالة شاملة ومتساوية من جهة أخرى. فالمساءلة الانتقائية، وضيق هامش التعددية السياسية، والصدمة المتوارَثة بين الأجيال، ونظام الحكم الأحادي الاتجاه الذي كرّس من جديد هيمنة أقلية على أغلبية على نحو يستدعي إلى الأذهان مراحل سابقة في تاريخ البلاد الحديث أفضت بدورها إلى دورات عنف، كلها عوامل تُبقي على “الجمر تحت الرماد”.

وكما يكتب إياد الجعفري في “العربي الجديد” (2025)، فإنه “من الصعب تصوّر خروج رواندا نهائيًا من لعنة الأقلية والأغلبية ومن سؤال “من يحكم من؟” ما لم تُبنَ سلطة ديمقراطية حقيقية، وتداول فعلي للسلطة عبر أحزاب سياسية لا تقوم على أساس عرقي أو طبقي. سوى ذلك، فإن التظاهر اليوم بدفن الأحقاد قد لا يؤدي إلا إلى دفع الغضب إلى طبقات خفيّة غير معلنة، تُشبه تلك التي عاشها السوريون واختبروها جيدًا في عهد حكم آل الأسد.

hgu]hgm hghkjrhgdm ugn 'vdrm v,hk]h>> lk hgYfh]m hg[lhudm Ygn hglwhgpm

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اللهم أعذني من شر نفسي ومن شر كل ذي شر