أبعاد

ياسر عرفات في بيروت: أسرار تُكشَف للمرة الأولى وحذر مبكر من “البيجر”

منذ نكبة فلسطين عام 1948 وإقامة الكيان الإسرائيلي على أرضها، برزت أسماء كثيرة خاضت غمار المواجهة ضد الاحتلال، غير أنّ اسمًا واحدًا شدّ الأنظار إليه وبات رمزًا للقضية الفلسطينية.

إنّه ياسر عرفات، الرئيس الفلسطيني الذي تُوفي عام 2004، وذلك بعد مسيرة طويلة من النضال في سبيل فلسطين التي وضع “كوفيتها” على رأسه طيلة حياته.

خلال مسيرته، زار عرفات بلدانًا عديدة، غير أنّ لبنان كان البلد الذي وجد فيه موطئ قدم ثابت، وفيه مارس ما يُسمّى بـ”العمل الفدائي الفلسطيني” ضد إسرائيل خلال قيادته “منظمة التحرير الفلسطينية”.

وجد عرفات في لبنان قاعدة أساسية، وكان إلى جانب الأحزاب الوطنية واليسارية اللبنانية، في مقابل خصومة حادة مع عدد من الأحزاب المسيحية التي خاضت حربًا ضد منظمة التحرير اعتراضًا على وجودها المسلح في لبنان.

كما كان عرفات على رأس المقاتلين الفلسطينيين الذين خرجوا من بيروت عام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إثر ضغوط كبيرة تعرضت لها منظمة التحرير بفعل الهجوم الإسرائيلي.

هذه المعطيات، وسواها، تختزن بين سطورها الكثير من الأسرار عن نشاط عرفات في لبنان. فماذا تقول الحقائق التاريخية عن تلك الأسرار؟ وماذا يروي الذين كانوا إلى جانب “أبي عمار” عن نشاطه في لبنان، والخفايا المرتبطة به التي لا يعلم عنها كثيرون؟

ياسر عرفات.. من النشأة إلى تأسيس “فتح” 

الاسم الحقيقي لياسر عرفات هو محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، وُلد في القدس في أغسطس/ آب عام 1929. تُوفيت والدته عام 1933 حين كان في الرابعة من عمره، فعاش بعد ذلك في منزل خاله سليم أبو السعود حتى عام 1937، حين غادر إلى مصر بطلب من والده.(1)

استقر عرفات في القاهرة، حيث تابع تعليمه حتى المرحلة الثانوية في مدرسة فاروق الأول الثانوية. وهناك، وتحديدًا عام 1946، تعرّف على رئيس “الهيئة العربية العليا لفلسطين” الحاج محمد أمين الحسيني.

وعندما صدر قرار دولي بتقسيم فلسطين عام 1947، شرع عرفات في جمع الألغام والأسلحة التي تركتها جيوش الحلفاء في الصحراء الغربية في مواقع العلمين والسلوم، بهدف إرسالها إلى القاهرة لتُنقل بعدها سرًا إلى “جيش الجهاد المقدس” في فلسطين بقيادة عبد القادر الحسيني.(2)

فعليًا، قام عرفات بهذا الدور ضمن فريق يعمل بتوجيه من “الهيئة العربية العليا” التي كان يرأسها محمد أمين الحسيني، وكان يشتري الأسلحة والألغام بمعونة عدد من الأشخاص.

وجد عرفات في لبنان موطئ قدمٍ له، وفيه مارس العمل الفدائي الفلسطيني” ضد إسرائيل- غيتي

عام 1948، ومع اندلاع المعارك في فلسطين وتصاعدها، تطوع عرفات للقتال مع قوات “جيش الجهاد المقدس” في غزة، وهو الجيش نفسه الذي كان يعمل على جمع الأسلحة له، علمًا أنّه في ذلك العام كان قد التحق بكلية الهندسة المدنية في جامعة الملك فؤاد الأول.

بعد عام، أي في 1949، وبعد وقوع النكبة الفلسطينية، عاد عرفات إلى كلية الهندسة، وذاع صيته في الأوساط الفلسطينية بفعل نشاطه العسكري وعمليات تهريب السلاح التي قام بها.

وخلال وجوده في القاهرة، اختار عرفات توسيع نشاطه الثوري؛ فعام 1951 شارك في تأسيس “رابطة الطلاب الفلسطينيين” مع شخصيات من بينها سليم الزعنون (أبو الأديب) وصلاح خلف (أبو إياد)، اللذان أصبحا لاحقًا من أبرز قادة حركة “فتح” ورفيقي دربه في مراحل مفصلية.

انتُخب عرفات رئيسًا للرابطة بين عامي 1952 و1956. وفي عام 1955 زار قطاع غزة، وهناك تعرّف على خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان مسؤولًا عن تنظيم مجموعات قتالية من الفدائيين الفلسطينيين.

في عام 1953 تغيّر اسم الرابطة التي ترأسها عرفات ليصبح “الاتحاد العام لطلاب فلسطين”. وفي تلك الفترة، نظّم تظاهرة طالب فيها مجلس قيادة الثورة في مصر، الذي تولّى الحكم إثر ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، باستقبال الشبان الفلسطينيين في الكليات الحربية المصرية ليتدربوا على السلاح والقتال. وأثناء تلك التظاهرة، التقى عرفات الرئيس المصري محمد نجيب الذي وافق على طلبه.

وخلال عام 1957، عمل عرفات على تأسيس أول نواة لحركة فدائية فلسطينية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1959، وأثناء وجوده في الكويت، عقد اجتماعًا مع عدد من الشبان الفلسطينيين القادمين من دول عربية مختلفة، وتم الإعلان عن تأسيس “حركة التحرير الوطني الفلسطيني” (فتح).

كانت الفكرة الأساسية للحركة عند تأسيسها تقوم على أنّ تحرير فلسطين لن يتم عبر الجيوش العربية النظامية أو أي طرف آخر، بل من خلال الفلسطينيين أنفسهم، عبر “الكفاح المسلح” وحرب التحرير الشعبية، على أن تنطلق هذه الحرب من قواعد قائمة في الدول المحيطة بفلسطين من جهة، ومن داخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل من جهة أخرى.

عام 1964، أنشأت جامعة الدول العربية “منظمة التحرير الفلسطينية”. وبعد 3 سنوات، وتحديدًا في 5 يونيو/ حزيران 1967، شنّت إسرائيل حربًا ضد مصر وسوريا والأردن، استمرت 6 أيام وأسفرت عن احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة.(3)

تُجمِع الشهادات على ملامح عمل ياسر عرفات في لبنان: إشراف لصيق على البنية التنظيمية والأمنية، حذر مبكر من الوسائل الإلكترونية مثل “البيجر”، تنقّل مستمر ومراكز بديلة خلال حصار 1982، نقل منظّم للأرشيف، ومتابعة لوجستية لاحتياجات المدنيين.

إثر ذلك، توسع وجود الفدائيين الفلسطينيين داخل الأردن. وفي عام 1969 اندلعت اشتباكات في عدد من المناطق الأردنية بين “منظمة التحرير الفلسطينية” والجيش الأردني، واستمرت حتى عام 1970. وبفعل المعارك الضارية، تكبّدت المنظمة خسائر عسكرية كبيرة، ما أدى إلى خروجها من الأردن إلى سوريا ولبنان عام 1971.(4)

وتعزّز وجود الفلسطينيين في لبنان اعتبارًا من عام 1969 بعد توقيع “اتفاق القاهرة” بين زعيم منظمة التحرير آنذاك ياسر عرفات والدولة اللبنانية. عمليًا، منحت هذه الاتفاقية الفلسطينيين حق إدارة مخيماتهم داخل الأراضي اللبنانية، في حين انخرطوا في “الكفاح المسلح” ضد إسرائيل بالتنسيق مع الجيش اللبناني. وعلى هذا الأساس، شنّ الفلسطينيون عمليات عسكرية انطلاقًا من جنوب لبنان، فيما تعزّز إدخال السلاح إلى المخيمات بوصفه عنصرًا أساسيًا في العمل الفدائي.(5)

“حصار الختيار” | حلقة من أرشيف “كنت هناك” توثّق لمرحلة حصار ياسر عرفات 

أسرار عرفات في لبنان.. قصة “البيجر” 

مهّد انتهاء الوجود العسكري الفلسطيني في الأردن لانتقال “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى لبنان بقيادة ياسر عرفات، لتُصبح بيروت مقرًا لقيادته السياسية والعسكرية.

ومنذ لحظة وصوله إلى لبنان، رسّخ عرفات حضوره بقوة، خصوصًا بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. وانقسم اللبنانيون بين من اعتبر الوجود الفلسطيني المسلح سببًا رئيسيًا لاندلاع الحرب، وبين من رأى أنّ النظام السياسي والطائفي هو الذي فجّر الصراع الداخلي.

مع ذلك، كان نشاط عرفات في لبنان واسعًا ومتشعبًا. والذين واكبوه عن قرب يكشفون الكثير من الأسرار العسكرية والسياسية المرتبطة بـ”الزعيم الفلسطيني”، خصوصًا في ذروة الحرب داخل لبنان، وخلال فترة الحصار الذي فرضته إسرائيل على بيروت عام 1982 لإخراج منظمة التحرير وقائدها منها.

ماذا قال عبد الغني عن عرفات وأسراره؟ 

موقع “التلفزيون العربي” التقى القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية غسان عبد الغني في مكتبه داخل مخيم مار الياس في بيروت، بوصفه واحدًا من الذين واكبوا عرفات عن كثب، ويُعتبر من أشد المقربين إليه حين كان الأخير في لبنان وحتى بعد مغادرته بيروت إلى تونس عام 1982 مع المقاتلين.

منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، تولّى عبد الغني مسؤولية مكتب الأرشيف لدى عرفات، ما يعني أنّ أسرار “أبي عمار” ومراسلاته وكتاباته كانت بين يديه. ومن هذا المنطلق، يعود بذاكرته إلى تلك الحقبة ويقول إنّ الكلمات لا يمكن أن تختصر مسيرة “أبي عمار” النضالية الطويلة، خصوصًا خلال وجوده في بيروت.

يكشف عبد الغني أنّ عرفات كان مشرفًا عامًا على كل ما يتصل بالساحة الفلسطينية في لبنان، موضحًا أنّه في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، وأثناء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978، أمر بتطوير القوى العسكرية الفلسطينية واستقدام أسلحة جديدة مضادة للدروع، بالإضافة إلى أوامر بالحصول على طائرات.

ويتحدث عبد الغني عن سرّ لا تعرفه إلا قلّة ممن واكبوا عرفات، ويقول:

“عام 1980، وصلت إلى منظمة التحرير 5 أجهزة بيجر، أحضرها القيادي في حركة فتح خليل الوزير المعروف بأبي جهاد. حينها، عُقد اجتماع للاطلاع على هذه الأجهزة، وطُلب من مختصين داخل الحركة فحص جهاز واحد قبل استخدام الأجهزة كاملة.

في ذلك الوقت، رفض أبو عمار استخدام تلك الأجهزة بشكل كامل، قائلًا إنّها قد تكون غير آمنة، وقد تُستخدم في عمليات تفجير أو اغتيال. كان حريصًا على الابتعاد عن أي أدوات إلكترونية متطورة، باعتبار أنّ التكنولوجيا ليست بيدنا بل بيد العالم الغربي، وبالتالي فإنّ الخرق عبر تلك الأدوات سيكون كبيرًا، وهذا ما كان عرفات متنبهًا له بشدة”.

أدرك أبو عمار خطورة أجهزة “البيجر” مبكرًا ورفض استخدامها، معتبرًا أنّها قد تكون غير آمنة وقابلة للاستغلال في عمليات اغتيال أو تفجير.

للتذكير: في سبتمبر/ أيلول 2024 شهد لبنان، ضمن سياق زمني وتقني مختلف، انفجار أجهزة “بيجر” كانت بحوزة عناصر من “حزب الله”، ما أسفر عن سقوط شهداء وجرحى.
وقد نُفذت تلك العملية بتخطيط من إسرائيل التي أقرت رسميًا بتنفيذها، فيما أفادت تقارير عديدة بأن شحنة تلك الأجهزة كانت مُفخّخة، ما أدى إلى انفجارها.

ودخلت عملية تفجير أجهزة “البيجر” التاريخ بوصفها حدثًا مفصليًا في مسار الصراع بين لبنان وإسرائيل، وعلى ضوئها استعاد عبد الغني حادثة “أبي عمار” مع “البيجرات”، مشيرًا إلى أنّ الأخير أدرك خطورة هذه الأجهزة قبل عقود طويلة.

“أبو عمار” ينام في السيارة 

من بين التفاصيل التي رواها عبد الغني، أنّ عرفات نام في أحد الأيام داخل سيارته قرب برج المر الشهير في وسط بيروت، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 يونيو 1982.

ووفق عبد الغني، فإنّ “أبا عمار” لم يكن لديه مكان محدّد للإقامة، بل كان ينتقل من مكان إلى آخر، ويقضي الليل في منازل مختلفة تعود لأفراد وعناصر ومقرّبين من منظمة التحرير الفلسطينية. ويضيف:

لم يكن لدى أبي عمار فرق أمنية خاصة لمواكبته؛ كان يكتفي بعدد قليل من المرافقين، وكان يُصرّ على التنقل بسيارة واحدة. وذات مرة، أصيبت مركبته بشظية إثر قصف استهدف منطقة السفارة الروسية في بيروت.

ويكشف عبد الغني أنّه عندما شنّت إسرائيل اجتياحها للبنان في 6 يونيو 1982، كان “أبو عمار” في المملكة العربية السعودية، فعاد على عجل إلى بيروت. ويوضح أنّ منظمة التحرير كانت تمتلك مكتبًا أساسيًا في محيط منطقة الجامعة العربية في بيروت، عُرف باسم “المكتب 17”.

تطوّع عرفات للقتال مع قوات “جيش الجهاد المُقدس في غزة”- غيتي

في الأيام الأولى للاجتياح، لم يتوجّه عرفات إلى ذلك المكتب، لأن المنطقة المحيطة به كانت تتعرض لقصف عنيف من الطائرات الإسرائيلية، ما دفع المنظمة إلى افتتاح مكتب آخر في منطقة برج أبو حيدر في بيروت عُرف بـ”مكتب عمليات 5″.

كما افتتحت المنظمة مكاتب أخرى في منطقتي الحمرا وفردان، وكان “أبو عمار” يتنقل بينها ويمكث في الملاجئ التابعة لها، حيث يعقد اجتماعاته ويُجري اتصالاته.

شابات ينقلن رسائل عرفات

يقول عبد الغني إنّ أرشيف عرفات الكامل كان موجودًا داخل مبنى في منطقة الفاكهاني في بيروت. ويكشف أنّه حين تقرر خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في أغسطس 1982، جرى نقل الأرشيف على دفعات داخل حقائب، وعبر دراجات نارية باتجاه السفارة الفرنسية في بيروت، تمهيدًا لترحيله إلى خارج لبنان.

ويوضح أنّ هذا التفصيل لا يعرفه كثيرون، كاشفًا عن سرّ آخر يتعلق بمراسلات “أبي عمار”: 

“كانت هناك صعوبة في إرسال مراسلات التفاوض بين أبي عمار والجهات التي يتواصل معها، وخصوصًا ما يتعلق بمسألة خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. فكانت المراسلات الورقية تُنقل من شخص إلى آخر، مع نقاط محددة لتسلم الأوراق من كل حاملٍ لها، ونقلها إلى الأطراف الأخرى”.

خلال خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، جرى نقل أرشيف عرفات على دفعات داخل حقائب وعبر دراجات نارية باتجاه السفارة الفرنسية في بيروت لترحيله إلى خارج البلاد.

ويشير عبد الغني إلى أنّ طالبات من الجامعة الأميركية في بيروت، كنّ يؤيدن الثورة الفلسطينية، تولين نقل رسائل عرفات، مشيرًا إلى أنّ المنظمة كانت تستعين بهؤلاء الشابات المتعلمات لترجمة البيانات والمراسلات الأجنبية، كما كانت تستعين بموظفين من منظمة “اليونيسيف”.

حصار بيروت.. “أبو عمار” يتابع كل شيء 

بعد احتلالها لبنان، فرضت إسرائيل حصارًا مركزًا على بيروت، فقُطعت المياه والكهرباء عنها. في تلك المرحلة، أراد “أبو عمار”، وفق عبد الغني، مواجهة تبعات الحصار، فكان يُتابع كل شاردة وواردة تتعلق بتأمين احتياجات الناس من مياه ومواد أولية. ويضيف: “كلّفني أبو عمار بشراء مولّدات لضخ المياه من الآبار، كما أمر بشراء مخزن يتضمّن الطحين والسكر لتوزيعها على الناس”.

خروجُ منظمة التحرير علنًا وبالسلاح في الأيدي رسّخ صورةً أرادها ياسر عرفات لختام مرحلة بيروت، في حين تركت مجزرة صبرا وشاتيلا أثرًا نفسيًا وسياسيًا بالغًا على خياراته اللاحقة.

ويوضح عبد الغني أنّ عرفات كان معنيًا بكل التفاصيل، حتى إنّه كان يُواكب ليلًا ونهارًا جهود التخفيف عن الناس في ظل الحصار، إذ كان يعتبر أنّ هذه المسألة تعنيه شخصيًا، وأنّ صمود اللبنانيين في وجه إسرائيل أمر على درجة كبيرة من الأهمية.

الخروج من لبنان 

يُعتبر عبد الغني واحدًا من عناصر منظمة التحرير الذين غادروا لبنان إلى تونس اعتبارًا من أغسطس 1982، وقد سبق “أبا عمار” إلى هناك بأيام قليلة.

ويستذكر مسألة الرحيل قائلًا إنّه لم يكن مقررًا له المغادرة، لكن عرفات أمره بذلك بشكل مفاجئ خلال جلسة داخل أحد المنازل في بيروت. ويضيف:

“كنا نجلس مع عدد من الأشخاص حين دخل أبو عمار فجأة. وخلال حديث سريع، سألني إن كنت سأغادر لبنان، فأجبته بالنفي، فسارع للقول إنّه عليّ أن أخرج من بيروت وألا أبقى في البلاد. في البداية، أبلغني بالمغادرة إلى سوريا، لكنني طلبت الذهاب إلى تونس، فوافق فورًا”.

ويقول عبد الغني إنّ مفاوضات خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان تضمنت كثيرًا من الشروط التي أرادت إظهار المنظمة في صورة المستسلم، لكن عرفات رفضها جميعًا، وأصرّ على أن يكون خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان علنيًا وبالسلاح في أيديهم، وهو ما حصل بالفعل. ويتابع:

“خلال المفاوضات، طُرح أن يخرج المقاتلون الفلسطينيون ضمن سيارات الصليب الأحمر كأسرى حرب، كما طُرح انتقالهم إلى سوريا، لكن أبا عمار رفض ذلك لأنّه لم يُرد أن يجعل منظمة التحرير تحت يد النظام السوري، الذي كان يرأسه آنذاك الرئيس حافظ الأسد”.

“حرب المخيمات” – حلقة من أرشيف برنامج “كنت هناك” توثّق مرحلة ما بعد خروج منظمة التحرير من لبنان

صدمة مجزرة “صبرا وشاتيلا” 

بعد خروج “أبي عمار” من بيروت إلى تونس، وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا في 17 سبتمبر/ أيلول 1982 واستمرت حتى ظهر اليوم التالي، وأسفرت عن مقتل آلاف الفلسطينيين واللبنانيين ومدنيين من جنسيات أخرى.(6)

نفذت المجزرة جماعات مسلحة لبنانية مناوئة للوجود الفلسطيني، تحت إشراف الجيش الإسرائيلي الذي كان يفرض حصارًا شديدًا على بيروت. وجاءت هذه الجريمة بعد يومين من اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل بتفجير في منطقة الأشرفية شرق بيروت.

ويشرح عبد الغني أنّ تلك المجزرة كانت صدمة كبرى لأبي عمار، موضحًا أنّه عاش حالة من الانكسار والغضب بعد وقوعها:

“حينما توالت الأخبار عن المجزرة، دخل أبو عمار في صدمة ونوبة غضب.. كان مستاءً إلى حد بعيد، وبدأ اتصالاته على أعلى المستويات لمواكبة الوضع. في تلك الأيام، لم يتناول الطعام مطلقًا، وكان الحزن يغمره بشدة”.

ويلفت عبد الغني إلى أنّ أبا عمار كان متخوفًا على مصير المدنيين الفلسطينيين في لبنان رغم وجود ضمانات مسبقة بعدم المساس بهم، لكنّ تلك الضمانات انهارت، ويضيف: “تلك المجزرة أثّرت على أبي عمار كثيرًا، وكانت الصور المرتبطة بها مروعة إلى حد لا يُنسى”.

“بيجاما” أبو عمار.. واحدة فقط 

من الأسرار التي يرويها عبد الغني عن “أبي عمار” ما يتعلق بـ”بيجاما” النوم الخاصة به، إذ يكشف أنّ الزعيم الفلسطيني لم يكن يمتلك سوى بدلة نوم واحدة. ويقول:

“ذات مرة، وخلال وجودنا في المنزل، سألتني العاملة إن كانت بدلة النوم الخاصة بأبي عمار والمعلقة على الخزانة بحاجة إلى تنظيف. قلت لها إن تقوم بتنظيفها، وهذا ما حصل.

بعد وقت قصير، دخل أبو عمار إلى غرفته وفوجئ بعدم وجود بدلته، وسأل عنها، فقيل له إنّها تُنظف. عندها قال إنّه لا يملك غيرها، وبقي بملابسه الداخلية داخل الغرفة ريثما أصبحت البدلة جاهزة للارتداء مجددًا”.

“محفظة أبو عمار”.. مقتنيات زهيدة 

عام 2004، وقبيل وفاته في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، تدهورت الحالة الصحية لأبي عمار، ومكث في أحد المستشفيات الفرنسية. وخلال صراعه مع المرض، لم تنقطع خطوط تواصله مع معارفه ورفاقه.

ويقول عبد الغني إنّه اتصل يومًا مع معاونه المقرّب الموجود إلى جانب عرفات في المستشفى، ويضيف:

“سمعت أبا عمار يسأل عن اسم المتصل، فأبلغه مساعده بأن المتحدث هو أنا. عندها، بادر أبو عمار إلى الحديث معي، وسألني عن أحوالي وماذا أفعل. وبعد يوم واحد من هذا الاتصال، تدهورت حالته الصحية أكثر، قبل أن يتوفاه الله”.

ويضيف عبد الغني أنّه بعد وفاة عرفات عام 2004، اطّلع على محفظته الخاصة، فاكتشف أنّ قيمة المقتنيات الموجودة فيها لا تناهز 100 دولار:

“من بين تلك المقتنيات كان هناك شيء مهم وبارز، هو سند ملكية باسم والدة أبي عمار يعود لأرض صغيرة في القدس. عدا ذلك، لم يكن لدى أبي عمار أي شيء يُذكر”.

متحف لمقتنيات الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في غزة│من أرشيف “شبابيك”

“أبو عمار” يوزّع الطعام على المُقاتلين 

بعد عبد الغني، التقى موقع “التلفزيون العربي” بالقيادي في حركة “فتح” جمال قشمر داخل مخيم البصّ في مدينة صور جنوب لبنان. وسرد قشمر تفاصيل عديدة عن “أبي عمار”، خصوصًا خلال وجوده على الجبهة القتالية في جنوب لبنان.

يلفت قشمر إلى أنّه بعد احتلال إسرائيل قرى وبلدات في جنوب لبنان عام 1978، توجه أبو عمار إلى الجنوب ليكون إلى جانب المقاتلين الفلسطينيين هناك. ويقول:

“كانت هناك دعاية إسرائيلية تفيد بأن المقاتلين الفلسطينيين يغادرون ويهربون، لكن وجود أبي عمار في ساحة القتال، خصوصًا في منطقة أبو الأسود في جنوب لبنان، شدّ من عزيمة المقاتلين ونفى كل الإشاعات الإسرائيلية في ذلك الوقت”.

ويشير قشمر إلى أنّ “أبا عمار” كان يحرص على تناول الطعام مع المقاتلين، لا سيما خلال شهر رمضان المبارك، موضحًا أنّه كان يوزع طعام الإفطار على العناصر بيده، ويتولى سكب الطعام في صحونهم.

ويضيف أنّ “عرفات كان قريبًا من مقاتليه، يستمع إلى مشكلاتهم الخاصة”، موضحًا:

“كان أبو عمار يواكب أحوال المقاتلين إلى درجة أنّه كان يعلم بكل شاردة وواردة تخصّهم، وإذا رُزق أحدهم بمولود، كان أبو عمار يتصل لتقديم التهاني”.

عرفات يُواجه “الجدار الطيب” 

يتحدث قشمر عن خطة أمر بها عرفات خلال احتلال إسرائيل قرى في جنوب لبنان عام 1978 وتأسيسها ما عُرف بـ”الشريط الحدودي”. آنذاك، أنشأت إسرائيل ما سُمّي “الجدار الطيب”، وهو مشروع يهدف لاستمالة سكان القرى الحدودية عبر تقديم المؤن والمساعدات العينية.

حينها، رأى عرفات أنّ هذا المشروع الإسرائيلي يجب ألا يمرّ، فقرّر مواجهته. وبدأ التنسيق مع مختلف القرى الجنوبية لتموينها من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، كي لا تُضطر إلى الخضوع لإسرائيل. ويشير قشمر إلى أنّ قرى مسيحية عدة رفضت هذا المشروع الإسرائيلي بشكل واضح.

تبدو تجربة بيروت فصلًا حاسمًا في بناء ياسر عرفات لأسلوب قيادته: مزجٌ بين الانضباط الأمنيّ والرمزية السياسية ورعاية الشبكات التنظيمية، من دون ادعاء حسمٍ نهائي لمسار الصراع.

كما يكشف أنّه التقى عرفات ثلاث مرات في تونس مع مسؤولين آخرين في “فتح” للحصول على دعمه لمواصلة مواجهة إسرائيل داخل لبنان. ويقول:

“كان أبو عمار يرى أن مقاومة إسرائيل في لبنان مسؤولية فلسطينية أيضًا، وقد قدّم لنا كل ما نحتاجه من سلاح وتمويل، واهتمّ بشؤون الجرحى وعائلات الشهداء. وكان مُصرًا على مواصلة الحرب ضد إسرائيل حتى تحرير لبنان”.

تكشف الأسرار المرتبطة بـ”أبي عمار” عن شخصية فريدة، تُظهر من جهة صفات القائد الحريص على شؤون شعبه، وتُبرز من جهة أخرى جانبًا إنسانيًا يُحتذى به. أما رحلته في بيروت، التي استمرت قرابة 12 عامًا، فقد تركت أثرًا كبيرًا في الذاكرة اللبنانية، تمامًا كما شكّلت فصلاً حاسمًا في بناء أسلوب قيادته، إذ تشير مجمل الوقائع والشهادات إلى أنّ ياسر عرفات في لبنان كان قائدًا عمليًا شديد الحذر، يوازن بين العمل العسكري والتنظيمي والخدمة اللوجستية للمدنيين.وفيما أظهر حصارُ 1982 قدرته على الحركة المرنة وإدارة بدائل للمكاتب والاتصالات والأرشيف، رسّخ خروج منظمة التحرير علنًا وبالسلاح في الأيدي رسّخ صورةً أرادها لختام تلك المرحلة.

المراجع: 

  • مقابلة خاصة لموقع “التلفزيون العربي” مع القيادي في حركة “فتح” غسان عبد الغني – مدير مكتب الأرشيف الخاص بياسر عرفات

  •  مقابلة خاصة لموقع التلفزيون العربي مع القيادي في حركة “فتح” جمال قشمر 

dhsv uvthj td fdv,j: Hsvhv jE;aWt gglvm hgH,gn ,p`v lf;v lk “hgfd[v”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اللهم ارزقني حسن الخاتمة