“أملي لشعب التبت”.. الدالاي لاما ومأساة الأديان في الصين
بعد غياب طويل عن وسائل الإعلام، فاجأنا الزعيم الروحي لشعب التبت “الدالاي لاما” برسالة حزينة نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، بعنوان “أملي لشعب التبت”.
روى الدالاي لاما الرابع عشر “تينزين غياتسو” حكاية شعب يتعرض للتطهير العرقي لمجرد إيمانه بديانة يرغب النظام في محوها ورموزها وتشكيل عقائده على هواه. اختار الدالاي لاما يوم 9 مارس/آذار لكتابة مقاله المنشور بجريدة النخبة، ليرسم مأساة يعيشها منذ اختياره زعيما روحيا لشعب التبت الساكن في قمم الثلوج بجبال الهيمالايا على مساحة مليوني كيلومتر مربع بين الهند والصين.
قال “كانت قيادة أمة وشعبها من أعظم مهام حياتي، منذ اختياري دالاي لاما (أعلى منصب عند المؤمنين بالبوذية) في الثانية من عمري، إلى أن طُلب منى تولّي القيادة رسميا بعد غزو قوات الصين الشيوعية لبلدي عام 1950، لتعكس حياتي المصير المأساوي للتبت وشعبها”. وعدَّد الدالاي لاما محاولاته على مدار 9 سنوات، لتسوية الأزمة مع السلطات الشيوعية التي بسطت نفوذها على منطقة التبت.
وتذكَّر لقاءه بزعيم الثورة الشيوعية ماو تسي دونغ، الذي طمأنه على شعبه، رغم ما همس به في أذنه عن الدين، الذي يصفه بـ”أفيون الشعوب”، إلى أن أدرك أن سعية لإنقاذ التبت وشعبها المضطهد لن يتحقق مع بقائه في التبت. فر الزعيم في ليلة شديدة البرودة والظلمة يوم 10 مارس 1959، ليعيش مع 100 ألف من اتباعه في المنفى، بما أدى إلى انفجار انتفاضة بالعاصمة “لاسا”، قابلتها الصين بقسوة.
مسار غامض
بعد مرور 75 عاما على غزو التبت ومصادفة مرور 66 عاما على هروبه إلى الهند، يتحدث الدالاي لاما عن استمرار الصين في انتهاك كرامتهم، وحريتهم في العيش وفقا لرغباتهم وثقافتهم، كما فعلوا لأكثر من ألف عام قبل 1950، مذكّرا بأن الصين ذاتها مرت بتغييرات جذرية، تركت الاشتراكية، مع تحوُّل زعيمها الراحل دينغ هسياو بينغ إلى الرأسمالية، والانفتاح على الخارج، وأصبحت قوة اقتصادية وعسكرية ذات نفوذ سياسي دولي. يتساءل “كيف ستمارس الصين هذه القوى الهائلة على مدى العقد أو العقدين القادمين؟ وهل ستختار طريق الهيمنة والعدوان داخليا وخارجيا أم طريق المسؤولية وتحتضن دورا قياديا بناء على المسرح العالمي؟”.
جاءت كلمات زعيم التبت قبل ساعات من الاجتماع السنوي لمجلس نواب الشعب الذي يضم ممثلي الأقاليم ومناطق الحكم الذاتي والقوميات الـ56 المشكّلة للدولة، بقيادة الرئيس شي جين بينغ، ليحدد المسارات التي ستتبعها الدولة خلال الفترة المقبلة اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا.
ربما صادفت رسالة الدالاي لاما اجتماعات أعلى سلطة تشريعية بالنخبة السياسية، التي انفضت بعد أحاديث مطولة عن الالتزام بدفع معدلات النمو الاقتصادي والاستعداد لحرب تجارية مع الولايات المتحدة، والتفوق التكنولوجي وزيادة الإنفاق العسكري، لكن المؤكد أن كلماته لم تجد صدى لدى سلطة يقودها حزب شيوعي اعتاد الانقلاب على ثوابت تاريخية وضعها مع الأقليات الدينية من المسلمين والمسيحيين والبوذيين، عند ولادة الدولة الجديدة في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1949.
انتحار الرهبان
مع بلوغه 90 عاما، يبدو الدالاي لاما مصرّا على النضال للحصول على الحرية لشعبه، عبر حلول ترضي أتباعه والصين، مع “الالتزام الصارم بمبادئ اللاعنف”. يعلم أن بيجين يهمها وحدة أراضي جمهورية الصين الشعبية، وأن ما يريده -بعد تفويضه السلطة السياسية لأتباعه استعدادا لاختيار “دالاي لاما” جديد قد يزيد الأمر تعقيدا- أن يبقى وشعبه أحرارا في هوية ثقافية ولغوية متميزة، تعيد الازدهار إلى التبت مع بقائها جزءا من الدولة.
تقابل السلطة خيارات الدالاي لاما باستهزاء، لقدرتها على فرض النظام بالقوة على أتباعه في التبت، والملايين الذين فروا إلى داخل الصين وخارجها.
لا تبدي السلطة اهتماما بالدالاي لاما إلا عند الكوارث مثل التي وقعت قبيل أولمبياد بيجين 2008، حينما سكب رهبان بوذيون البنزين على أجسادهم وأشعلوا فيها النار، في مشهد احتجاج انتحاري مؤلم.
اضطرت بيجين إلى فتح حوار مع الدالاي لاما، لإثناء أتباعه عن احتجاجاتهم المرعبة، التي تسبب لهم حرجا أمام المجتمع الدولي ووسائل الإعلام، وتؤجج مظاهرات عالميا يشارك فيها مشاهير الساسة ونجوم هوليوود. قدَّم الدالاي لاما للسلطات خارطة طريق وحل يرضي الطرفين، ما لبثت بيجين أن تجاهلتها بعد فوزها بأولمبياد حسنت من سمعتها ودعمت وجودها دوليا.
رغم اهتمام الحكومة بتحديث التبت وربطها بشبكة القطارات السريعة والمطارات، وتحويل العاصمة المقدسة للبوذيين “لاسا” إلى مزار سياحي، فإنها لم تتخط عقبة علاقتها المضطربة بمواطنين يعتقدون أنهم يواجهون “معركة صراع وجودي، ولا خيار لهم سوى النضال العادل للحفاظ على لغتهم ودينهم وثقافتهم وحرمة معابدهم وحياتهم التي أصبحت على المحك مع سلطة لا تعترف بهذه الحقوق”.
مآسي المسلمين والبوذيين
تؤكد الصين أن التبت تتمتع بالحكم الذاتي، وتتهم الدالاي لاما بتشجيع الانفصال عن الدولة، وهي التهمة نفسها التي تلصقها بالمسلمين من الإيغور والقازاق والتركمان بمنطقة شينجيانغ “تركستان الشرقية”، الذين يقيمون ضمن 5 مناطق حصلت على الحكم الذاتي، وفقا لمبادئ دستورية أقرها الحزب الشيوعي عام 1953، تنظم العلاقة بين الأقاليم التي ورثها عن الأسرة الملكية والتي ضمها إليه أثناء وعقب وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم.
فوجئ التبتيون والمسلمون بأن مناطق الحكم الذاتي تدار من قِبلهم نظريا، وأن سلطاتهم الإدارية محدودة، ويجري محو لغتهم وثقافتهم بقسوة، مع فرض اللغة الصينية وأسلوب حياة “الهان” اليومية قسرا على الجميع، بما فيها من إسراف في الخمور والميسر والحرية الجنسية.
يجري تعيين كبار المسؤولين في التبت وغيرها من بيجين مباشرة. يُمنع المسلمون والمسيحيون من ممارسة شعائرهم بحرية، ويُحرم التبتيون من إظهار الولاء الديني للدالاي لاما أو الاحتفاظ بصوره، وتفرض رقابة صارمة على الأديرة والتعليم الديني في المساجد والمعابد، مع نشر قوات أمنية وكاميرات مراقبة في كل مكان، تتتبع المواطنين لمنع أي احتجاجات مفاجئة.
رغم توقف السلطات أخيرا عن هدم معابد بوذية ومواقع دينية في التبت، فإنها تواصل هدم مساجد وكنائس، وتجديد بعضها لتوظيفها في مشروعات سياحية مليئة بالمراقص والخمور، بما يقلص دورها الديني، لتظل مزارا ثقافيا يؤدي فيه الشعب دور “الكومبارس” وفق سيناريو ترسمه الدولة مثل أفلام السينما.
اللافت وجود مئات الآلاف من المسلمين “الهوى” من أصول صينية، يعيشون متجاورين مع البوذيين في التبت منذ مئات السنين دون صراعات دينية، ومن قابلناهم على مدار سنوات، لم يشتكوا من تعرُّض هويتهم وثقافتهم لتغيير إلا بعد ضم الحكومة الشيوعية للإقليم عام 1950.
تفرض السلطات الصينية قيودا مشددة على الصحفيين والأجانب لزيارة التبت وشينجيانغ، وتمول من يساعدهم على ممارسة أعمال دعائية.
أدهشنا المسؤولون في بيجين عندما اختاروا أمين الحزب الشيوعي تشن تشوانغو، قائد حملة التطهير العرقي في التبت من 2011-2016، ليصبح حاكما لمقاطعة شينجيانغ في أغسطس/آب 2016، ليشرف على تعذيب واحتجاز مليون مسلم إيغوري في معسكرات الاعتقال، إلى أن رقي بمنصب نائب لجنة الزراعة بمجلس نواب الشعب الصيني عام 2021.
بدعاوى “صيننة الأديان”، يمنع الحزب الشيوعي نواب الشعب من معارضة سياساته، ويعيد تفسير القرآن والإنجيل وفقا لأفكاره، ويحد من التعليم الديني للبوذيين وغيرهم، فإما أن يُخضع الأديان لتفسيرات السلطة أو يقمعها، ليجعل الولاء لقادته فوق الولاء الديني.