إنقاذ ما بقي من الأمن الغذائي في غزة
بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقف دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، والتهديد باستئناف القتال والعودة إلى سياسة الحصار والتجويع كسلاح، يأتي دور إنتاج الغذاء محليا في قطاع غزة في إنقاذ أرواح الغزيين المحاصرين من الموت جوعا في المرحلة القادمة. وسيكون لاستغلال الغزيين المتاح من أراضي زراعية في إنتاج أغذية أساسية دور حيوي في إفشال مخطط التجويع الذي تطبقه إسرائيل بتشدد منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول سنة 2023، وتعزيز الصمود في مواجهة تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتكرر بتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى الأردن ومصر بحجة أن القطاع ليس مكانا مناسبا للعيش. وقد صرح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجديد، إيال زامير بعد وصول نتنياهو لواشنطن في بداية شهر فبراير/شباط الماضي بأن هذا العام 2025 سيكون عام حرب وليس عام هدنة أو وقف لإطلاق النار.
وبعد تدمير الجيش الإسرائيلي مزارع الدواجن والماشية وبيوت المحميات الزراعية بالكامل وانعداد فرص إصلاحها وتشغيلها ومنع صيد الأسماك، يمكن لبعض الأغذية النباتية أن يكون لها دور في إغاثة المنكوبين في قطاع غزة، وأن تكون بديلا لأكل العشب والعلف وأوراق الشجر، إذا استأنف نتنياهو الحرب على غزة واستمر في سياسة الحصار والتجويع بإغلاق المعابر، ولكنها ليست بديلا لحق الإنسان الفلسطيني الطبيعي في الحصول على الغذاء بكرامة كسائر البشر. وهو حق يكفله القانون الدولي الإنساني الذي يلزم دولتي الاحتلال والجوار، والمجتمع الدولي، فرادى ومتضامنين، بتزويد قطاع غزة بالمواد الغذائية في وقت السلم والحرب، ويحظر عليهم جميعا وأشتاتا مساعدة إسرائيل في إغلاق المعابر وإنزال العقاب الجماعي بسكان قطاع غزة.
العناية بما بقي من أشجار الزيتون
قبل العدوان، كان في قطاع غزة مليونا شجرة زيتون، مزروعة في حوالي 50 ألف دونم، وبعد الاجتياح البري، قامت قوات الجيش الإسرائيلي بتجريف 40 ألف دونم، وتدمير 90% من هذه الثروة الغذائية التاريخية. هذه المساحة كانت تنتج 15 ألف طن زيتون للتخليل و35 ألف طن للعصر، و5 آلاف طن من أجود أنواع زيت الزيتون في العالم. ونظرا إلى أهمية زيت الزيتون في النظام الغذائي الفلسطيني، قام الجيش بتدمير 34 معصرة للزيت من أصل 40 معصرة كانت منتشرة في القطاع قبل اندلاع الحرب.
أشجار الزيتون التي نجت من التدمير، رغم انخفاض أعدادها، هي مصدر غذائي محلي لا يجوز التفريط فيه. وتحتاج بساتين الزيتون إلى التعهد بالرعاية حتى موسم قطف الثمار بدلا من فقدها بالكامل، خاصة البساتين التي حرمت من أصحابها بالقتل أو الاعتقال. فهي تحتاج إلى التقليم وإزالة الحشائش وإصلاح شبكة الري المتهالكة. وهناك فرصة لزراعة البقوليات بين أشجار الزيتون، لتثبيت جزء من الأزوت الذي تحتاج إليه الأشجار في التربة من تحتها، في ظل منع الاحتلال دخول الأسمدة الزراعية للقطاع.
نخيل البلح غذاء حيوي للنساء والأطفال في غزة
تبرز أهمية التمر في أوقات الحروب والكوارث والأزمات، لقلة احتياج إلى الخدمات الزراعية التي تتعذر في وقت الحرب، ولعظم قيمته الغذائية بوصفه طعام “قوت” أكثر من كونه فاكهة. فهو أفضل محصول زراعي مربح في فلسطين، والغذاء المثالي لجميع الأعمار، الأطفال والبالغين، النساء المرضعات والحوامل، المرضى والأصحاء. ويتميز التمر بقيمته الغذائية العالية، حيث تحتوي 100 غرام منه على 280 سعرا حراريا، إضافة إلى محتواه من المغذيات والفيتامينات والعناصر المعدنية الأساسية، ومنها السكريات والألياف الغذائية والحديد والبوتاسيوم والزنك والفولات.
كما أن أن التمر طعام سهل الحفظ لمدد طويلة دون فساد ودون الحاجة إلى ثلاجات التبريد، وجاهز للأكل مباشرة ولا يحتاج إلى تجهيز أو طهي، وبالتالي فهو مثالي لتغذية المنكوبين في قطاع غزة في ظل غياب الكهرباء والغاز وأدوات الطهي.
وتبرز الأهمية الكبرى للتمر في كونه غذاءً مثاليا للأطفال عامة وفي قطاع غزة خاصة، إذ يزيد عدد أطفال القطاع على 1.1 مليون طفل، يمثلون 47% من السكان، ويمثل تجويعهم ومنع دخول احتياجاتهم من الأطعمة الأساسية هدفا إسرائيليا استراتيجيا منذ السابع من أكتوبر سنة 2023، وهو نقطة الضعف الكبرى والعائق أمام صمود الأهالي في غزة في مواجهة سياسات التهجير. وقد صرح كبار المسؤولين الإسرائيليين في بداية العدوان بأن الحصار التام لقطاع غزة الذي يشكل الأطفال فيه نصف الـ2.2 مليون نسمة، هو جزء من مساعي إسرائيل للقضاء على حماس، ردا على عمليتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
ونتيجة الاستهداف الإسرائيلي الممنهج لأطفال غزة بالقتل والتجويع طوال الحرب، قالت وكالة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إن الحرب في غزة كانت “مدمرة للأطفال”، إذ قتلت إسرائيل أكثر من 18 ألف طفل فلسطيني، 37% من إجمالي عدد الشهداء، بمعدل 35 شهيدا يوميا، وجرحت 25 ألفا، ونقل إلى المستشفيات أكثر من 25 ألفا آخرين لسبب واحد فقط هو الجوع وسوء التغذية. وذكرت وكالة الأونروا أن العدوان الإسرائيلي كان يصيب نحو 475 طفلا كل شهر، بمعدل 15 طفلا يوميا، بإعاقات قد تستمر مدى الحياة، منها بتر في الأطراف وضعف في السمع، نتيجة استخدام الأسلحة المتفجرة بقطاع غزة خلال 2024.
وكذلك يمثل التمر غذاءً حيويا للنساء في قطاع غزة الذي يعيش فيه مليون امرأة، بينهن في المتوسط نحو 60 ألف امراة حامل، تلد نحو 180 منهن يوميا. وبالنسبة لهؤلاء النساء، يصبح التمر غذاء ودواء في ذات الوقت، يوفر المغذيات الأساسية ويرفع المناعة ويقي من أمراض سوء التغذية ونقص المغذيات للأم والجنين. وفي بدايات العدوان كشفت بوضوح، مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيز، عن مخطط إسرائيلي لاستهداف النساء والأطفال في غزة كسياسة استعمارية ينتهجها الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي لاقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره والسيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية.
تلقيح أشجار النخيل في غزة
يوجد في قطاع غزة نحو 250 ألف شجرة نخيل، معظمها من النوع الحياني الذي ينمو وينتشر في كل قطاع غزة الجغرافي، الشمالي والجنوبي، وبعكس معظم الفواكه، يتحمل نخيل البلح نقص مياه الري والأسمدة والمبيدات التي تمنع إسرائيل دخولها القطاع لمدة طويلة، ولا يضره توقف المعاملات الزراعية وتعذرها في وقت الحرب والقصف، ويعتمد على مياه الأمطار مدة طويلة خلال السنة. وتنتج غزة ما يزيد على 15 ألف طن من بلح الرطب ومشتقاته من عجوة التمر والدبس والمربى. وبالتالي فهو غذاء محلي، يتوفر في كل حي ومربع سكني، وهو لذلك غذاء مثالي للتغلب على مخططات التقسيم وفصل الشمال عن الجنوب، فلا يحتاج إلى النقل من الشمال إلى الجنوب والعكس، وهو سهل الحفظ وقابل للتخزين مدة طويلة يمكن أن تزيد على سنة.
يحتاج نخيل البلح في غزة إلى عمليات التلقيح، وهي عملية أساسية للإثمار، وتبدأ في شهر إبريل/نيسان. وتحتاج وزارة الزراعة إلى دعم مالي لتوظيف المتخصصين في إنجاز عملية تلقيح كل أشجار النخيل في القطاع، في البساتين الخاصة والمنافع العامة، وخاصة التي حرمت من أصحابها، سواء بالقتل أو الاعتقال أو الإعاقة أو السفر. ويجب أن ينظر إلى بساتين وأشجار النخيل في وقت الحرب على أنها أمن قومي وثروة عامة، تجب حمايتها ورعايتها حتى موسم جني الثمار في منتصف شهر أكتوبر.
زراعة بقوليات وخضراوات لا تحتاج كميات مائية كبيرة
في ظروف البيئة الغزية ومعدل هطل الأمطار على القطاع، توجد مجموعة من البقوليات والخضراوات الورقية الصالحة للأكل وتسد جزءا مهما من الاحتياجات الغذائية، مثل البروتينات والنشويات والعناصر المعدنية والفيتامينات، للبالغين والأطفال. هذه النباتات تتحمل الظروف البيئية الصعبة وتنمو وتثمر دون الحاجة إلى كميات كبيرة من المياه، وبالتالي يمكن زراعتها بطريقة الزراعة البعلية، التي لا تحتاج إلى ري ومعاملات زراعية على فترات منتظمة. وتتم الزراعة بنثر وغرس بذور هذه البقوليات والخضراوات في الأراضي الزراعية والبور وغير المأهولة والمناطق الخربة البعيدة عن مياه الصرف الصحي وحدائق البيوت.
ويمكن زراعة هذه البقوليات والخضراوات بعد موجة الأمطار الأخيرة، وسوف تنمو بشكل جيد في الظروف الطبيعية والبرية دون حاجة إلى عناية بشرية أو لبيوت محمية أو مواد سمادية أو معاملة بالمبيدات، التي يتشدد الاحتلال في منع دخولها إلى القطاع. وتكون هذه النباتات صالحة للأكل في غضون أسابيع قليلة، خمسة إلى 8 أسابيع، وتؤكل نيئة ومطبوخة.
وهناك ميزة مهمة أخرى لهذه المجموعة من المحاصيل الغذائية، وهي قابليتها للجفيف والتخزين لفترات طويلة تتعدى سنة، وتظل صالحة للأكل حتى موسم الزراعة التالي، وهي بديل آدمي لأكل الحشائش وعلف الماشية في ظروف القصف والحصار التي تعرض لها الغزيون بالفعل في وقت الحرب خلال السنة الماضية. هذه المجموعة من البقوليات والخضراوات تشمل: الفول والبسلة أو البازلاء، والفاصوليا واللوبيا، والجزر، والسبانخ، والسلق، والملوخية، والرجلة، والشيكوريا، والخبيزة، والجرجير، والبقدونس، والشبت، والكرفس، والفجل، والقرنبيط، والكرنب أو الملفوف، والثوم، والبصل، واللفت، والزعتر، والكمون، والكوسا، والنعناع، والبامية.