أبعاد

عبَر الصحراء واتُّهم بالجاسوسية.. أمين الريحاني وحلم “الولايات المتحدة العربية”

غادر الأديب والمفكر أمين الريحاني الحياة عام 1940 إثر حادث دراجة هوائية في بلدته الفريكة في لبنان. وكان من آخر ما كتبه وصيته للعرب التي تحدث فيها عن المقاومة السلمية، إذ لم يرَ أن المقاومة المسلحة يمكن أن تفيدهم بأي شكل من الأشكال، مؤكدًا أن على العرب رفض كل أشكال الانتداب والسعي إلى أن يكونوا أمة مستقلة.

الريحاني الذي هاجر مع عائلته إلى الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، عاد بعد سنوات إلى المنطقة حاملًا معه مشروعًا، وزار شبه الجزيرة العربية حيث التقى شخصيات وزعماء بارزين.

ومع هذا الحضور اللافت، أثيرت تساؤلات كثيرة بشأن أهداف رحلاته، وصلت حدّ اتهامه بالجاسوسية. غير أن ما بقي من مشروعه كان الكتب التي ألّفها، والتي احتوت على تفاصيل لم يتيسر لغيره الحصول على مثلها عن مرحلة مفصلية في حياة العرب وحكامهم، وإن لم تستوفِ هذه الكتابات شروط التأريخ الصارمة كما يعتمدها المؤرخون، إذ إن بعضها كان أقرب إلى إملاء مباشر من بعض الحكام.

من هو أمين الريحاني؟

أعقبت انتهاء الحكم العثماني بعد الحرب العالمية الأولى، ووقوع أجزاء واسعة من البلاد العربية تحت السيطرة الفرنسية والبريطانية بموجب اتفاقية سايكس بيكو، مرحلة شديدة الحساسية في تاريخ الأمة العربية.

فقد رسمت سايكس بيكو خرائط النفوذ الاستعماري على أراضي الدول العربية، وشهدت المنطقة آنذاك صراعات ومنازعات حول تشكيل دول جديدة تسعى إلى الاستقلال.

حينها ظهر أمين الريحاني كشخص استثنائي، شاهدًا ومؤثرًا في آن، في مرحلة كان فيها كل شيء ممكنًا. وحظي خلال رحلته التاريخية بفرصة الكتابة عن لحظات مفصلية شكّلت نواة لخارطة الدول العربية كما نعرفها اليوم.

أمين فارس الريحاني، الأديب الأميركي اللبناني، هو ابن بلدة الفريكة في جبل لبنان، ومعروف بكتابه الشهير “ملوك العرب” الذي يروي تفاصيل رحلته عام 1922، والتي شملت أجزاء عدة من البلاد العربية.

كان الريحاني في تلك الرحلة بمثابة وسيط بين الحكام العرب، حاملًا معه آمالًا عريضة بتوحيدهم تحت راية القومية العربية.

تصوير تخييلي لأمين الريحاني كمفكر وباحث تحيط به الكتب وخريطة الجزيرة العربية – مولَّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي

ويلفت الدكتور ماتياس ديترمان، أستاذ التاريخ المشارك في جامعة فرجينيا كومنولث في قطر، إلى أن أمين الريحاني كان رجلًا ينتمي إلى عوالم مختلفة: بين الغرب والشرق، بين الولايات المتحدة والعالم العربي.

وكان أيضًا رجلًا مخضرمًا في عالم الإمبراطورية العثمانية القديمة وعالم الدول الجديدة التي ظهرت بعد خسارتها للحرب العالمية الأولى، وفق ما يقول، مردفًا أن الريحاني كان رجل سياسة وناشطًا سياسيًا.

بدوره، يشير الدكتور غالب عربيات، رئيس جمعية المؤرخين الأردنيين، إلى أن أمين الريحاني مفكر وفيلسوف وأديب، وقد يُعدّ أيضًا تشكيليًا ومؤرخًا. ويؤكد أن الأهم بالنسبة إليه هو نتاجه الكتابي الذي تجاوز السبعين كتابًا.

أما رئيس مؤسسة الفكر اللبناني وابن شقيق أمين الريحاني، الدكتور أمين ألبرت الريحاني، فيصف الراحل بأنه “من أبرز أعلام العالم العربي بوصفه مفكرًا وكاتبًا وأديبًا وفيلسوفًا ورجلًا سياسيًا”، لافتًا إلى أن التداخل بين هذه الحقول موضوع طويل ومتشعب، لكنّها جميعًا تصب في تعريف من هو أمين الريحاني.

“الوطن الأم أميركا”

غادر الريحاني بلدة الفريكة وانتقل مع عائلته إلى الولايات المتحدة وهو في الثانية عشرة من عمره، حيث عمل مع والده في التجارة.

هناك، بدأت تتبلور ملامح انتماء الريحاني لأميركا، التي سيصفها لاحقًا في كتاباته بـ”الوطن الأم”، وهو توصيف سيحمل دلالات مهمة في دوافعه اللاحقة، وسعيه إلى “جلب” أميركا سياسيًا إلى المنطقة العربية أملًا في أن تلعب دورًا إيجابيًا على أراضيها.

يقول في كتابه “ملوك العرب”:

“كنت في الثانية عشرة من عمري عندما سافرت للمرة الأولى إلى الولايات المتحدة، فلم أكن أعرف غير اليسير من اللغتين العربية والفرنسية. هجرتُ وطني وفي صدري الخوف ممّن أتكلم لغتهم والبغض لمن في عروقي شيء من دمهم، والبغض والخوف هما توأمَا الجهل”.

وبحسب ما يرويه أمين ألبرت الريحاني، فإن الأديب أمين الريحاني تأثر بالفيلسوف البريطاني توماس كارليل، ولا سيما كتابه الشهير عن الأنبياء، حيث تعرّف من خلاله إلى شخصية النبي محمد.

وينقل عنه قوله متحدثًا عن تلك اللحظة الفكرية: “اكتشفتُ نفسي أنني أتمسك بهذه الشخصية لأنني أحببتها، وهذا ما دفع بي إلى بداية حبي للعرب رغم أخطائهم أو مشاكلهم الاجتماعية”.

الدكتور ماتياس ديترمان يلفت بدوره إلى أن أمين الريحاني كان قوميًّا عربيًّا علمانيًّا ومسيحيًا في الوقت نفسه، من خلفية مارونية هي المجموعة المسيحية السائدة في منطقة جبل لبنان. ويردف:

“أمين الريحاني كان معجبًا بشكل كبير بالنبي محمد (ص) وبالخلفاء الأوائل، لا سيما عمر بن الخطاب. ومع ذلك فقد بقي مسيحيًا، وكان يتصور وطنًا عربيًا علمانيًا، وأمة عربية علمانية لجميع العرب والمتحدثين بالعربية بغضّ النظر عن دينهم”.

جانب من حلقة “مذكّرات” |  أمين الريحاني وإعجابه بالنبي محمد والخلفاء الأوائل

حلم “الولايات المتحدة العربية”

انخرط أمين الريحاني في العمل والنشاط السياسي قبل شروعه في رحلته الشهيرة إلى البلاد العربية، فالتقى الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت من أجل القضية الفلسطينية عام 1917، ودُعي إلى تمثيل العرب في مؤتمر لاهاي للسلام.

وقد سبقت هذه الأنشطة السياسية، إلى جانب كتاباته عن العرب والقومية، رحلته الكبرى إلى الجزيرة العربية.

كان الريحاني يروّج في كتاباته لمشروعه الذي أطلق عليه اسم “الولايات المتحدة العربية”، وكان هاجس التقريب بين الشرق والغرب، وبين العرب وأميركا، حاضرًا بقوة في معظم ما كتب. وكان يرى أن السبيل إلى توحيد العرب هو اجتماعهم تحت راية القومية العربية، بصرف النظر عن أي اعتبارات دينية أو مناطقية.

ففي “ملوك العرب” يقول:

“ويلي من التقسيم في بلادي وفي نفسي، فقد قسم بلادي الفرنسيون والإنكليز، وكادت الهجرات تقسّم نفسي، كيف لا وقد وُلدت في لبنان، ونشأت في أميركا، ثم في البلاد العربية. ويصح أن أقول إني وُلدت ثلاث مرات، فتجاذبت نفسيَ الأوطانُ الثلاثة”.

استعد الريحاني لبدء رحلته إلى البلاد العربية، وقبل انطلاقه كتب رسالة إلى هنري فليتشر، مساعد سكرتير وزير الخارجية الأميركي، يشرح فيها أهداف رحلته والأسئلة التي يسعى إلى الإجابة عنها خلالها.

هذه الرسالة أثارت لاحقًا كثيرًا من الجدل حول دوافعه وأهدافه، حتى وصل الأمر بالبعض إلى حد اتهامه بالجاسوسية.

فقد كتب فيها:

“أنا الآن أخطط لرحلة إلى شبه الجزيرة العربية، ليس من أجل الترفيه أو كسائح، ولكن في عمل ذي أهمية كبيرة. القائمة المرفقة من الأسئلة تهمّ العالم أجمع اليوم، ولن أجيب عليها بدقة حتى أكون على أرض الواقع. وهذا سوف يعطيك فكرة كاملة عما أقترح القيام به”.

ويشرح أمين ألبرت الريحاني أن “الريحاني صنف في هذه الرسائل طبيعة أسئلته، فجاء قسم منها على علاقة مباشرة بالعائلة الحاكمة في الحجاز، أي الشريف حسين، وتناول مخططاتها المستقبلية وكيف تستطيع الاستمرار في الحكم: في الحجاز خاصة أم في مناطق أخرى قد تنضم إليها”.

أما غالب عربيات فيقول: “يبدو أن الغرب طلب من أمين الريحاني أو أنه تطوع من تلقاء نفسه لإيصال وجهة نظر الغرب إلى العرب، وأن ينقل في المقابل رؤية العرب إلى الغرب، من خلال زياراته الميدانية ولقاءاته مع الزعماء واطلاعه على أحوال السكان المحليين والنخب من أدباء ومثقفين وسياسيين”.

وبرأيه، أسهم جمع هذه المعطيات في الإجابة عن الأسئلة المطروحة آنذاك. ويعتبر أن الريحاني جاء ليحاول تصحيح مسارات الفهم الخاطئ لطبيعة العلاقة بين الغرب والشرق، ولتصويب نظرة العرب، ولا سيما في ظل تكالب الدول الاستعمارية على المنطقة، والأخطر مع بروز المشروع الصهيوني.

جانب من حلقة “مذكّرات” | الولايات المتحدة العربية.. حلم أمين الريحاني الذي لم يتحقق

تقارير أمين الريحاني إلى وزارة الخارجية الأميركية

كشفت الوثائق لاحقًا عن مجموعة تقارير أرسلها الريحاني إلى مساعد سكرتير وزير الخارجية الأميركي، تضمنت معلومات مفصلة عن رحلته، ومن أبرز ما تناولته قضية النفط.

فقد كتب:

“التقرير المرفق هو جزء من الوفاء بالوعد، وآمل أن يكون مثيرًا ومفيدًا. المعلومات عن العراق وشرق الأردن بالتأكيد تتلقاها من القناصل في بغداد والقدس”.

لذلك كان أمين الريحاني، كما يوضح ماتياس ديترمان، ذا قيمة كبيرة لوزارة الخارجية الأميركية، إذ كان بمقدوره جمع معلومات دقيقة عن شبه الجزيرة العربية، وإقامة روابط وصداقات وعلاقات بين الولايات المتحدة وهذه الدول الناشئة، مثل المملكة العربية السعودية.

ويشير أمين ألبرت الريحاني إلى أن كثيرين يفاجَأون بعلاقة أمين الريحاني مع وزير الخارجية الأميركي أو مساعده، أو مع الرئيس روزفلت شخصيًا وسائر رؤساء الولايات المتحدة الذين عاصرهم.

ويوضح أن الريحاني حمل الجنسية الأميركية منذ عام 1901، وكان يرى نفسه في خدمة “وطنه الثاني” كما هو في خدمة “وطنه الأول”، مذكرًا بأن أميركا التي عمل معها الريحاني كانت في حقبة زمنية سبقت تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948.

جانب من حلقة “مذكّرات” | كيف خدم أمين الريحاني التوازن بين أميركا والمنطقة العربية؟

رحلة أمين الريحاني في الجزيرة العربية

بدأ الريحاني رحلته بلقاء الشريف حسين في الحجاز، وأشار في كتابه “ملوك العرب” إلى تفاصيل اللقاء الذي جرى في قصر الشريف حسين في جدة، فكتب:

“في اليوم الخامس والعشرين من شهر (فبراير) شباط سنة 1922، الثامن من رجب سنة 1340، وطئتُ لأول مرة أرضًا في شبه الجزيرة العربية، وقابلت ملكًا ما عرف العرب غيره من ملوك العرب”.

انتقل بعد ذلك إلى اليمن، حيث التقى الإمام يحيى برفقة صديقه يني قسطنطين، حاملاً رسالة صلح من الشريف إليه.

وتحدث الريحاني في كتابه عن نيته تحصيل امتيازات من حاكم اليمن، الأمر الذي دفع بالإنكليز إلى عرقلة رحلته، فاحتجزوا جواز سفره ومنعوه من مواصلة الطريق إلى صنعاء، وحاولوا تخويفه بتحذيره من احتمال مقتله لأنه مسيحي.

لكن الريحاني تمكن في نهاية المطاف من الذهاب ولقاء الإمام يحيى.

وفي هذا السياق كتب:

“إني على يقين أنه لو حكم الإمام يحيى حكمًا مدنيًا بحتًا، حكمًا عربيًا يمانيًا لا حكمًا زيديًا، لتمكن من تحقيق مطامعه السياسية. فالشوافع إذ ذاك يدينون له طائعين راضين، أو أنهم يأبون على الأقل أن يكونوا آلة مذهبية في يد أعدائه”.

أكمل الريحاني رحلته عبر اليمن للقاء السيد أحمد الإدريسي، وحاول أن يعقد اتفاقًا بينه وبين الإمام يحيى، إلا أن الأخير لم يوافق على بنود هذا الاتفاق.

لكن الريحاني تابع مسيره ليصل إلى الحجاز حيث أدى فريضة الحج، والتقى سلاطين ومشايخ تلك المنطقة، عارضًا عليهم اتفاقًا للتوحيد بين القبائل في اليمن من جهة، وصيغة تعاون مع بقية الدول العربية من جهة أخرى.

ومع أن الريحاني لم يُوفَّق في الحصول على ما أراده، إلا أنه واصل رحلته للقاء الملك عبد العزيز آل سعود في نجد، حيث بدأ فصل جديد يعد الأهم في رحلته منذ انطلاقتها.

وقد كتب في “ملوك العرب”:

“كان قد مر أربعة أشهر ونيف على كتابي إلى السلطان عبد العزيز، فسافرتُ من عدن إلى بمباي قاصدًا من هناك البصرة، وفي قلبي تشوق إلى الجواب شديد. ولا أكتم القارئ أن رغبتي بزيارة رجل نجد الكبير كانت تزداد شدة كلما تعددت، وحالت دونها العقبات”.

بدأ بعد ذلك عهد من الرسائل المتبادلة بين الملك عبد العزيز وأمين الريحاني، اتخذت طابع الصداقة، وإن كانت تحمل في كثير منها مقاصد سياسية ومساعي أخرى من جانب الريحاني، من بينها محاولته تحصيل امتياز النفط من الملك عبد العزيز لصالح شركات أميركية.

وهكذا، بين وصيته الأخيرة التي دعت إلى مقاومة سلمية ورفض كل أشكال الانتداب، ورحلته المليئة بالتقارير والشكوك والآمال بوطن عربي موحّد، يبقى أمين الريحاني واحدًا من أكثر مثقفي تلك المرحلة إثارة للأسئلة.

كيف تطورت علاقة الريحاني بعبد العزيز آل سعود؟ وما مضمون الرسائل التي تبادلاها؟ وأي صلة ربطته بالشريف حسين؟ وما الدور الذي لعبه في مراعاة المصالح الأميركية في المنطقة؟ وكيف نشأت التساؤلات حول هويته الحقيقية وغاياته من تلك الرحلة الصحراوية الطويلة؟ الإجابة وأكثر في الحلقة المرفقة من “مذكرات”.

 

الحلقة الكاملة من “مذكّرات” | أمين الريحاني وملوك العرب

ufWv hgwpvhx ,hjREil fhg[hs,sdm>> Hldk hgvdphkd ,pgl “hg,ghdhj hgljp]m hguvfdm”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اللهم إني أستودعك نفسي ومالي وأهلي وديني ودنياي