أزمة الكتابة الدينية في بلادنا | المقالات والدراسات
تناولنا في مقالنا السابق، أزمة القراءة في بلادنا، وذلك من خلال رصد سريع لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، لكن هناك أضلاع أخرى مهمة للأزمة، لا تتعلق بالقارئ، بل تتعلق بالكاتب، وبالنشر لما يكتب، وهي أزمة ملحوظة وواضحة، فإذا كنا نشكو من قلة القراءة في بلادنا، فإن جزءا مهما يتعلق بما يكتبه الكتاب، وأزمة تصحر عالم الكتابة، فإن جزءا مهما من الشكوى، أن القراء يبحثون عن كتب ذات نفع وأهمية، وفيها جديد جدير بالاقتناء والاطلاع، بات قليلا ونادرا.
هناك في بلادنا أزمة كتابة عامة، لا تتعلق بالشأن الديني فقط، فقد كان الكتاب من قبل، أدباء ومفكرون، يمتلكون ناصية الكتابة في المجالات المختلفة، ولم يكن صعبا أن تجد كاتبا سياسيا، لكنه يمتلك أدوات علمية ليتناول بعض القضايا الدينية، سواء تتفق مع ما يكتب أو تختلف، فكنت ترى الدكتور محمد حسين هيكل، فهو أديب، وسياسي، ومفكر، عندما يكتب الرواية يبدع، وعندما يتناول الشؤون السياسية فهو مقنع، وعندما يمارس الكتابة الدينية فهو مالك لناصية البحث التاريخي الإسلامي، واللغة العربية.
وما يقال عن هيكل الكبير، يقال عن آخرين، من أبناء جيله وغيره، كانت مصر تمتلك نخبة تحار فيمن تقرأ له، فجلهم يجمعون مع تخصصهم العلمي، القدرة الأدبية على التعبير، سواء على مستوى الكتابة كمقالات، أو الكتابة المسترسلة ككتاب، يكتبون المقال الصحفي باحتراف، وكانت المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة لا تخلو من أبواب الكتابة الدينية، في المناسبات وغيرها، والمجلات الدينية كالأزهر وغيرها، لا تخلو من أبواب أدبية وسياسية، في ثراء بين وواضح.
كان العالم العربي ينتظر مجلات مصر، الزاخرة بالعطاء الفكري والعلمي، والتي يشارك في كتابتها مصريون وغير مصريين، مسلمون وغير مسلمين، من كل بلاد العالم، دون النظر للجنس أو الدين، أو المذهب، هذا الثراء صنع من القاهرة عاصمة للفكر، ويظل الكاتب العربي يكتب في بلاده سنوات، ولا يعرفه أحد، إلى أن يكتب مقالا في مجلة مصرية، يسير بذكره الركبان، ويصبح علما مشهورا، وهو ما كتب بعضهم حول الموضوع، سواء من باب الشكاية، أو من باب التحدث بنعمة الله على خلقه، بأن وهب الله مصر هذه المزية.
وكانت المجلات الدينية في مصر، ذات شعبية وشهرة واسعة على مستوى العالم، لكن بدأ المقال الديني والكتابة الدينية المصرية تضمحل وتضعف، فقد كان رؤساء تحرير المجلات الدينية الكبرى من أهل الاختصاص الصحفي، فمجلة الأزهر مثلا، تناوب على رئاسة تحريرها أسماء من أهل المهنة، فمر عليها: محمد فريد وجدي، وأحمد حسن الزيات، وعباس محمود العقاد، ومحب الدين الخطيب، وغيرهم، من الأسماء الرنانة في عالم الصحافة والنشر، وكانت شروطهم لقبول المقال صارمة، فلا بد من معالجة موضوع، والإلمام به، وامتلاك لغة راقية تصلح لنشر ما يكتب.
أزمة كُتَّاب:
ولكن الآن لم يعد يجد القارئ الكاتب الذي يتتبع كل ما يكتب، إلا أصحاب أقلام محدودة ومعدودة، وبات ذلك على المستوى الديني أكثر وضوحا، فأصبحت هناك ضحالة وفقر واضح في الكتابة المحترفة، التي تجمع بين رصانة الموضوعات، وسلاسلة الأسلوب، وإشراقة بيانه، فلم تعد مجلاتنا الدينية كما كانت من قبل.
وادعاء أن قارئ المقالات الدينية، أو الكتب الدينية، لم يعد موجودا، فهو كلام يجافي الحقيقة، فمعارض الكتب العربية على مستوى العالم، يعد فيها الكتاب الديني أكثر الكتب رواجا، لكن لوحظ أن الناس باتت تتجه للكتاب الديني التراثي، ولم يعد لديها ميل للمعاصر، ولا يزال هناك حاجة ملحة للمقال الديني المتزن، الذي يجمع بين الفكرة والأسلوب الجذاب المشوق، ولذا حين يجده القراء يلتهمونه كاملا، ولا يقفون عند فقرة من فقراته، كما يحدث في مقالات أخرى، يكتفون بنظرة سريعة لأهم ما فيه، بعيدا عن عبارات الإنشاء، ورص الكلمات رصا، بلا هدف، سوى وصول الكاتب لعدد الكلمات المطلوبة في المقال.
ثلاث ظواهر جديدة في عالم الكتابة:
هناك ثلاث ظواهر أو ملاحظات بدأت تتبدى في أفق القراءة الدينية. الأولى: فهو الولع بكل ما هو مترجم، مما يكتبه المستشرقون، أو الأجانب، أو العرب مما يكتبونه بغير العربية، عندما يترجم للعربية، فقد صار الإقبال على هذا النوع من الكتابة الدينية، له سوق ورواج كبير في الآونة الأخيرة، وصارت دور النشر تتنافس على هذا اللون من الكتب، سواء كان في الجانب السياسي أو الديني بشتى مجالاته.
كتابات بصيغة وعظية:
والثانية: أن بعض الوعاظ، أو أهل الخطاب الدعوي الوعظي، وهم مهمون في رسالتهم، لكن بعض المواد التي يلقونها هؤلاء بدأت تتحول لمادة كتابية، سواء في كتاب، أو مقال، وهو أمر لم يكن يحدث من قبل، فقد كان مجال التحدث منفصلا تماما عن مجال الكتابة، فكنا نعرف في مجال الكتابة الأستاذ خالد محمد خالد مثلا، ونعرف أنه ليس متحدثا، وإذا تكلم اجتر الكلام اجترارا، وهذا لا يعيبه، فكل ميسر لما خلق له، ولذا نراه لا يقحم نفسه مطلقا في تقديم برنامج ديني، إلا أن يكون ضيفا سريعا في فقرة في برنامج.
وعندنا نموذج الشيخ الشعراوي، فهو متحدث لبق، وشارح للقرآن أوتي عبقرية في الشرح، مما أثار انبهار ممثل عالمي كعمر الشريف، ووصفه بالممثل، مدحا لا ذما، وأنه متأثر به وبطريقة أدائه، ولذا لم يعرف الشعراوي كاتبا، ولا يملك قارئ نفسه مدة من الزمن يقرأ ما فرغه البعض من كتابات الشعراوي، فليس فيها سلاسلة خالد محمد خالد، ولا تسلسله، ولا إشراقة بيانه، وكلاهما من أهل اللغة والأدب.
كتابات مستأجرة:
والظاهرة الثالثة: ظاهرة الكتابة المستأجرة، فبدأت تظهر مقالات وكتب في المجال الديني، لشخصيات لا يعرف عنها هذا العطاء المتواصل، ولا الكتابة المتخصصة، ولا التمكن العلمي، فجأة بدأت تظهر كتابات، يتضح منها أنها مستأجرة، فقد اشتهر قضية شراء الرسائل العلمية، وكان البعض يكتفي بذلك، وظاهرة السرقات للمقالات والكتب والبحوث تزداد استفحالا، رغم تطور الأدوات التي تكشف هذا السلوك المشين، إلا أن هناك جرأة لدى البعض في فعلها.
لكن الآن بدأت تظهر ظاهرة أخرى بجانبها، فهي ليست سرقة، بل الاستئجار، أو الشراء، وليس الشراء لمقال واحد، بل أشبه بمجموعة كتاب، ليسوا معروفين، يستأجرون لكتابة مقالات وكتب، لشخص يملك المال، ولا يملك الموهبة، أو وراءه جهة تصدره لعالم الكتابة، لصنع قوة ناعمة زائفة، وقد كانت محصورة في المسؤولين والوزراء في بعض الدول العربية، لكنها انتقلت الآن إلى دوائر أخرى أقل في الدرجة والمكانة.
لم أقصد هنا الوقوف على أسباب هذه الأزمة، وبحث سبل علاجها، فهذا مجال يطول الحديث فيه، لكن أردت الرصد والتتبع؛ لمسيرة الكتابة والقراءة في بلادنا في المرحلة الحالية، وما وصلت إليه.