الطوفان والقيصر.. الجزيرة والانفراد.. التوثيق والتاريخ!
خلال أسبوعين فقط كنا على موعد مع انفرادين عالميين حققتهما الجزيرة التي تُوسع دوما المسافة بينها وبين كل الفضائيات المنافسة لتظل هذه القناة العتيدة في المقدمة دائما.
الانفراد الأول كان حلقة برنامج “ما خفي أعظم” عن عملية طوفان الأقصى التي أذيعت في 24 يناير/كانون الثاني الماضي.
هذه حلقة للتاريخ والتوثيق، وللإعلام الناضج الذي يحمل رسالة جادة ويعالج قضايا عادلة بمهنية ومصداقية، فقد تضمنت لقطات حصرية لقائد حماس يحيى السنوار خلال التخطيط للعملية، ثم إدارته للمعارك في مدينة رفح جنوب غزة قبل استشهاده في المنطقة نفسها.
السنوار وعصاه والمهابة والتحدي
ظهر السنوار قائدا شجاعا لا يهاب العدو، يتحرك ممسكا بعصا يتوكأ عليها، ليس لضعف منه، إنما مهابة في وجه العدو وتحديا له.
وهناك عصا أخرى تخلدت عندما قذف بها السنوار طائرة مسيَّرة تلتقط صورا داخل مبنى مهدم كان يجلس فيه وهو جريح، ظهر مقداما فلم يختبئ، تحدى الطائرة، وهو يعلم أنها تصوره، وأن ذلك خطر عليه، لكنه الرجل الذي يهزم الخطر نفسه.
في هذا المكان استُشهد السنوار، دون أن يعلم القتلة من هو، وقد بث جندي صهيوني فيديو رمي العصا على الطائرة، فكانت شهادة عفوية على حين غفلة من العدو تكرس الشجاعة النادرة للقائد الحمساوي.
وقد مات قادة الكيان غيظا، وتمنوا لو لم يكن تم نشر الفيديو الذي تسيد الشاشات ومواقع التواصل في العالم، وكان فيه إسقاط ذليل للسردية الصهيونية التي سعت للنيل من زعيم حماس عبر الأكاذيب.
فصول من البطولة ظهرت في الفيديوهات الحصرية التي تضمنتها حلقة “ما خفي أعظم” عن عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ جعلنا البرنامج كما لو كنا معهم صبيحة ذلك اليوم، وهم ينفذون معركة ساحقة كانت لهم فيها الغلبة، وكشفت أن كسر العدو ليس صعبا رغم عدته وعتاده وتحصيناته، ورغم أنه الكيان القلعة الحصينة.
في المواجهة على الأرض، عندما يكون هناك رجل أمام رجل فإن الاندحار مُحقق لإسرائيل التي لا تمتلك في تفوقها على المقاومات العربية غير سلاح الجو.
ولهذا في عدوانها على غزة، تتكبد خسائر مؤلمة في النزال على الأرض، وهكذا في المواجهات مع حزب الله في جنوب لبنان، وقبل ذلك في منطقة القناة مع المقاومة الشعبية خلال حروبها مع مصر.
الضيف.. والحرية الحمراء
في البرنامج الوثيقة، ظهر محمد الضيف القائد العام لكتائب القسام.
هو استشهد، لكن بقيت له هذه المشاهد التوثيقية النادرة وهو في غرفة العمليات العسكرية، يشرح ويحدد الأهداف ويجهز للعملية .
اللقطات الخاصة في البرنامج والأحاديث بالصوت والصورة لقادة القسام وغرفة العمليات وأمر العملية العسكرية المكتوب والمحللين وتفاصيل البرنامج، كله مجهود إعلامي مهني من طراز فريد، وقد اعتادت الجزيرة تقديم هذه المفاجآت الصحفية التي تجعلها في مقدمة السباق دائما.
كلنا يعرف أحمد شوقي أمير الشعراء العرب، لكن ربما لم يكن البعض قد قرأ أو استمع لبيت الشعر الذي جعله السنوار أيقونة، حين قال في لقطة له “وللحريةِ الحمراءِ بابٌ.. بكل يدٍ مُضرَّجةٍ يُدقُّ”.
واختياره هذا البيت له مغزى كبير، فهو يعكس شرف النضال والتضحيات في سبيل الحرية والتحرر من المحتل الفاشي.
ما أعظم “ماخفي أعظم”، وما أعظم شاشة الجزيرة.
قيصر سوريا
وبعد أيام، وفي 6 فبراير/شباط الجاري، كنا على موعد مع الانفراد العالمي الثاني للجزيرة العتيدة في برنامج “للقصة بقية”، وتمثل في الظهور الأول لشخص قيصر وكشف هويته، إذ أزاحت الغموض عنه بعد سنوات من التخفي الضروري له، وكما هو انفراد مثير، فهو أيضا توثيق وتأريخ لجانب مفصلي في الثورة السورية.
قيصر كان فردا في منظومة الأمن الرهيبة في سوريا، وهو مواطن جسور غامر وانشق عن نظام الأسد، وحمل معه نحو 50 ألف صورة، التقطها خلال عمله الرسمي، لضحايا الثورة الذين سقطوا بفعل التعذيب الرهيب الشنيع، والتجويع الفظيع المميت.
كانت وظيفة قيصر تصوير ضحايا القمع الوحشي في سجون نظام الأسد ومسالخه، وقد خرج من سوريا بذخيرة صور مرعبة للضحايا مثّلت إدانة دامغة، وفضح نظاما فاشيا ذهب في دمويته ضد شعبه إلى أبعد مدى إجرامي، وبسبب هذه الصور فرضت أمريكا حزمة عقوبات على النظام السوري في تشريع سمّته “قانون قيصر”.
قيصر هو الاسم المستعار للسوري الشجاع، فريد المذهان، رئيس قسم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية، وهو يستحق تكريما خاصا في سوريا الجديدة، إذ قدَّم للثورة خدمة فريدة، كانت شديدة الخطورة عليه وعلى كل من يرتبط به.
تامر وفيروز
الإعلامي الفلسطيني تامر المسحال كان متميزا في إعداده “ما خفي أعظم”، حلقة موفقة مادة وتحليلا وتقديما وتعليقا وكتابة وضيوفا ومونتاجا.
لقطات السنوار والضيف ورفقائهما في قيادة القسام أدخلت الحلقة التاريخ، وكتبت لها البقاء عملا إعلاميا غير مسبوق، ولن يتكرر حيث لن يكون هناك السنوار والضيف مرة أخرى.
وكان مناسبا حماس المسحال وصوته القوى ونبراته التي توحي بأنه في ساحة قتال، وبالفعل فهو وزملاؤه في كتيبة الجزيرة يقاتلون بالكلمة الشريفة في المنبر الإعلامي الأول عربيا والمؤثر عالميا.
كما كان مناسبا هدوء الإعلامية الجزائرية فيروز زياني، ومسحة الألم البادية عليها خلال حوارها في برنامجها مع قيصر، وهو يسرد فظائع ومآسي مذهلة تعرَّض لها عشرات الآلاف من السوريين.
نبرات صوتها الحزينة، وأسئلتها المخلوطة بالعواطف الجياشة، وبكاء قيصر بسبب جرائم القتل البشعة التي تعرَّض لها أبرياء كل ذنبهم أنهم يريدون الحرية والكرامة، كل ذلك جعل ملايين المشاهدين يتوحدون معهما بصدق مع فصل من المأساة السورية.
وكان مُريعا ما سرده قيصر عن السقوط الأخلاقي لجلادي النظام وهم يتاجرون بجرائمهم، ويبتزون أهالي المعتقلين والشهداء، ويطلبون منهم أموالا ضخمة لمجرد معلومة تطمئنهم بأن أحبتهم لا يزالون على قيد الحياة.
التقدير للجزيرة وبرامجها ومحتواها وطواقمها، وبحثها الدؤوب عن الحقيقة، وإخلاصها للقضايا العربية العادلة، ومؤازرتها للشعوب وحرياتها، وفي انتظار المزيد من التألق والانفرادات.