أحمد الشرع يقود عربة البناء | المقالات والدراسات
تجاوز الشرع “القوتلي” حين وصف نفسه بخادم الشعب لا حاكمه. وهي عبارة جديدة تمامًا على أسماع السوريين الذين وصفهم “الفأر الهارب” بالجراثيم، والحشرات
أول حاكم عربي يزور سوريا بعد فرار الأسد وسقوط نظامه كان أمير قطر. استقبله الرئيس السوري أحمد الشرع في مطار دمشق، ولأول مرة، وبحركة مدروسة، يُقدم حاكم عربي على قيادة سيارة تحمل ضيفه من المطار إلى قصر الشعب. حتى الرئيس “شكري القوتلي” الذي كان مضرب مثل في طريقة حكمه أثناء فترتي رئاسته لسوريا قبل هيمنة العسكر وحزب البعث، كان عنده سائق خاص يقود “سيارة الدولة” التي لم تكن له طبعًا، ولا يركبها إلا أثناء وظيفته. في الزمن السوري الذي كان رئيس الجمهورية فيه مجرد موظف يقوم بمهمته فقط. أمر لافت للنظر، ويحمل الكثير من الدلالات تفسيرها موجود في الكلمة التي ألقاها الشرع مخاطبًا الشعب السوري بعد تنصيبه رئيسًا للجمهورية السورية.
تجاوز الشرع “القوتلي” حين وصف نفسه بخادم الشعب لا حاكمه، وهي عبارة جديدة تمامًا على أسماع السوريين الذين وصفهم “الفأر الهارب” بالجراثيم والحشرات، ولم يتحدّث إليهم يومًا إلا بفوقية ونرجسية تقترب من التأليه لشخصه المهزوز.
قطر وإعادة الإعمار في سوريا
وفي المؤتمر الصحفي الذي عُقد في قصر الشعب بين وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الدولة القطري محمد الخليفي نوقشت أهم قضية على الساحة السورية الآن وهي قضية إعادة الإعمار، وبتأكيد الطرفين على التفاهم بشأن تعميق الروابط الأخوية بين قطر وسوريا اتّخذ الشرع موقعه في القيادة التي بدأت بقيادة الفصائل المسلحة في معركة التحرير، وانتهت بقيادة الدولة رئيسًا لها، وبتفصيل صغير يحمل دلالات كبيرة قاد الشرع السيارة بنفسه وكأنه يوجه رسالة أو يعطي درسًا في مفهوم سياسة الدولة المستقبلية. درس مهم لكيفية إدارة الدولة وقيادتها، فهل نفهم من هذا السلوك أن إعادة إعمار سوريا سيكون عبر العربة القطرية بقيادة الشرع؟ ربما يكون هذا المقصود.
![](https://www.aljazeeramubasher.net/wp-content/uploads/2025/02/20250130222412-1738402865.jpg?w=700&resize=700%2C379)
كيف استقبل السوريون كلمة الرئيس؟
أكثر شيء لفت انتباه السوريين في الخطاب أنه اعتمد طريقة “خير الكلام ما قلّ ودلّ” والشرع على ما يبدو ليس شخصًا مُفوّهًا فقط، بل أيضًا يعي ويعرف بالضبط آمال الشعب السوري، وتطلعاته، وأولوياته، فقد احتوت كلمته المختصرة التي تجاوزت الأربعة دقائق بقليل على النقاط كلها التي دارت على ألسنة السوريين خلال الفترة ما بين التحرير وخطاب النصر.
التحوّل من فكر الثورة إلى بناء الدولة
كلمة الشرع الواضحة والدقيقة لا تحوي الكثير من الوعود التي يمكن نسيانها والتغاضي عنها بعد زمن، بل فيها دعوة للعمل على إحياء الدولة والعمل على بنائها وإنهاضها من الرماد الذي خلّفته حرائق الأسد.
لقد نشرت تلك الكلمة أجواءً من التفاؤل بين السوريين لم يسبق لها أن حدثت، وقد دعت بعض الذين قلقوا في البداية للتمسك بالنقاط التي تحدّث عنها، وتأهبوا لمحاسبته إن لم يصدق بما قاله. لا شك أن مناخ العمل المقبل سيخلق للشرع أعداء آخرين غير هؤلاء الذين أعلنوا بوضوح رفضهم له ولحكمه، وقالوا إنه لا يمثلهم.
وهو الآن أمام تحديات صعبة، يأمل الكثيرون أن يكون قادرًا على تنفيذ ما جاء في كلمته، كي لا يستغل أعداءه المتخفين حاليًا الفرصة ليؤلبوا الشعب عليه، ويحرضوا للقيام بثورة ثانية، فمن يعمل لا بد ستواجهه عثرات ويخطئ، ومن يسعَ ليكون زعيمًا ستنصب الفخاخ لاصطياده إن أفلح أو لم يفلح.
الديمقراطية الموعودة
لم يَعِدْ الشرع الناس بالعمل على الديمقراطية التي طالبوا بها بكل ما يملكون من حماس وهواجس ومخاوف، والتي هم على يقين أنها النظام الأكثر نجاحًا، ولو أن الشرع لم يختر كلمة “الشورى” في خطابه، واستبدلها بنظيرتها الأجنبية “الديمقراطية” لما وجد السوريون منفذًا في كلمته لأيّ انتقاد يوجّهونه له.
وقد يكون الشرع قد تَعمَّد إغفال هذه الكلمة في خطابه، لأنه لا يريد إشراك السوريين في الحكم، أو لا يستطيع في المرحلة الحالية تحمل نتائج هذا الوعد، على الرغم من أنها الطريق الأمثل للوصول إلى الرخاء الاقتصادي والاجتماعي.
لكن مع التغيرات المتسارعة، والتحولات الواضحة في فكر الرئيس الشرع نستطيع بكل بساطة الاستنتاج بأن الشورى التي يقصدها هي المرادف الحقيقي لكلمة ديمقراطية إن تم انتخاب ممثليها بطريقة حرّة، وهذا ما سيحصل فلم يعد بالإمكان اختيار أعضاء المجلس التشريعي (مجلس النواب) من أهل العقد والحل كما كان يحدث أيام المجتمع القبلي، وكذلك سيتم انتخاب الرئيس الجديد بعد نهاية المرحلة الانتقالية.
ما يبعث على الاطمئنان أكثر بعض التسريبات (غير المؤكدة بعد) التي تفيد بصدور قانون للأحزاب، وتشكيل مجلس للأعيان، بجانب مجلس الشورى (مجلس النواب) وأعضاء المجلسين ممن ينتخبهم الشعب انتخابًا، وذلك بعد صدور الدستور الجديد وإقراره باستفتاء شعبي، وإثر ذلك يتم انتخاب الرئيس الجديد، وكذلك تفيد التسريبات بقرب صدور قانون ترخيص الجمعيات المدنية التي ستكون مستقلة غير تابعة للسلطة، بل هي مؤسسات مجتمع مدني وأهلي كالأندية الرياضية والجمعيات والنقابات.
لقد استطاع الشرع في كلمته الموجزة جدًا أن يُشرك السوريين والسوريات كافة بمهمة بناء الدولة، وترسيخ كيانها الذي غاب عن الساحة الدولية طويلًا، فقد أقرَّ بشكل واضح أن من حرّر البلاد هم السوريون والسوريات كافة من حمزة الخطيب إلى آخر يوم في حياة الاستبداد، وذلك بما قدّموه من تضحيات عظيمة.