حريق الزرايب.. كيف ساهمت إجازة العمال في منع كارثة بالمصانع الـ4 المحترقة؟ | الحوادث
نشب الحريق في منطقة الزرايب بمنشأة ناصر في القاهرة كوحشٍ جائع خرج من قفصه، يلتهم كل شيء حوله بلا تمييز. 5 ساعات من اللهيب كانت كافية لتحويل 4 مصانع لتدوير البلاستيك وفرز القمامة إلى رماد. الحريق، الذي التهم المصانع العشوائية، امتد إلى عدد بسيط من المنازل، رغم ما أعلنته محافظة القاهرة بأن النيران لم تصل إلى البيوت. تكشّفت الحقيقة في صرخات الأهالي، في بكاء العرائس الثلاث اللواتي احترقت أحلامهن في لحظة، وفي وجوه السكان الذين خرجوا للشوارع يرتجفون خوفًا مما قد يأتي لاحقًا.
شهادات الناجين من حريق الزرايب
«الحريق بدأ بشرارة صغيرة، بس شوفوا النتيجة!»، قال أحد الرجال الذين تجمّعوا لمشاهدة المشهد. كان يتحدث بينما النيران تتراقص أمامهم، كأنها تتفاخر بما فعلته. الشرارة انطلقت من ماكينة قديمة في أحد المصانع، تعمل منذ سنوات بلا صيانة، وتحوّلت إلى كتلة لهب أحرقت المصنع الأول، ثم الثاني، ثم انتقلت إلى البقية كعدوى لا يمكن السيطرة عليها.
كانت الشوارع الضيقة عائقًا أمام سيارات الإطفاء، تمامًا كما كانت عائقًا أمام الناس في إنقاذ أرزاقهم. سيارات الحماية المدنية لم تستطع الدخول بسهولة، فاضطر رجال الإطفاء إلى حمل الخراطيم على أكتافهم والسير لمسافات طويلة للوصول إلى النيران.
«الشوارع دي بتخنقنا، حتى في الكوارث ما بنعرف نتحرك!»، صاحت امرأة مسنة وهي تبكي على مرأى المصنع محل عملها الذي تحول إلى كومة رماد.. على بعد أمتار، كانت سيدة وابنها يقفان وسط حشدٍ من الناس. المرأة الخمسينية ترتجف وهي ترفع يديها إلى السماء: «يا رب، نجّينا! يا رب، احفظنا من النار دي!»
صدى الدعوات كان يتردد بين الحاضرين، حيث اصطف الرجال والنساء في دائرة حول الأسر التي خسرت كل شيء. الأصوات تداخلت بين الأدعية والابتهالات، بينما بعض النساء يحاولن تهدئة الأمهات اللواتي يبكين بحرقة.
«سلم يا رب سلم!»، قالها شاب بصوت مرتجف، بينما كانت عيناه تراقبان النيران وهي تقترب من بيته.
وسط هذا المشهد المأساوي، كانت هناك بارقة أمل صغيرة. الحريق حدث في وقتٍ كانت فيه المصانع مغلقة بسبب إجازة العاملين. «لو كنا شغالين النهارده، كان في ناس كتير ماتوا!»، قال أحد العمال الذين تجمعوا لمتابعة ما تبقى من مصانعهم المحترقة.
لكن الحريق لم يترك شيئًا سوى الرماد. بلاستيك ذاب فوق الأرض كأنه حمم بركانية، وجدرانٌ سقطت كأنها ورق. الأطفال كانوا يشاهدون المشهد من بعيد، بعضهم يبكي، وبعضهم لا يزال يحاول فهم ما يحدث.
رجلٌ مسن كان يقف بجوار مجموعة من النساء، يقرأ تراتيل بصوتٍ خافت. كانت كلماته تختلط مع ضجيج المكان، لكنها بدت كأنها محاولة يائسة لتهدئة الأرواح المضطربة.
على أطراف الحيّ، كانت أم «رامى» تحتضن ابنها الوحيد بقوة، عيناها مشحونتان بالدموع والغضب. كانت الدموع تختلط برائحة الحريق الكثيفة، بينما تجمّع حولها أهالي الحيّ الذين لم يصدقوا ما يحدث أمامهم. «ربنا كبير… هو اللي هيعوضنا!»، قالتها إحدى السيدات التي حاولت مواساتها، بينما أم «رامى» تردد فقط: «يا رب، مش عايزين غير سترَك!».
إلى جوارهن، كانت سيدة كبيرة في السن تجلس على الأرض، تقلب بين يديها حفنة من رمادٍ كان يومًا ما جزءًا من أثاث منزلها. «ده كان سرير بنتي الصغيرة… كنا لسه جايبينه من شهر!»، همست وكأنها تخاطب نفسها، ثم انفجرت بالبكاء.
حريق كبير فى عزبة الزرايب بالقاهرة
رجال الإطفاء في مواجهة النيران
على الجانب الآخر من الشارع، وقف طفل صغير يحمل لعبته المحترقة بين يديه لم يكن يدرك حجم الكارثة، لكنه كان ينظر إلى الدمية بعيون خائفة كأنه يسأل: «ليه كل حاجة بتروح؟». اقتربت منه أمه، أخذته في حضنها وهي تردد بصوتٍ مرتعش: «خلاص يا حبيبي، هتجيب غيرها. ربنا يعوضنا!».
رجال الإطفاء كانوا يكافحون ليس فقط ضد النيران، ولكن ضد التعب والإرهاق. بعد ساعات طويلة من العمل، كانت وجوههم مغطاة بالسخام، وملابسهم مبتلة بالماء والعرق. أحدهم سقط مغشيًا عليه بينما كان يتسلق أحد الأسطح لمحاولة السيطرة على الحريق.
«هاتوا حد يبدّلني! مش قادر أكمل!»، صرخ أحد رجال الإطفاء وهو ينزل من السلم، يلتقط أنفاسه بصعوبة.. بينما كان الهلال الأحمر يعمل جنبًا إلى جنب مع سيارات الإسعاف، خرج رجل مصاب يحمل بين يديه بقايا صورة. «دي صورة ولادي! كل حاجة راحت، بس دول أهم حاجة عندي!»، قالها بصوت متحشرج، قبل أن ينهار باكيًا بين أيدي المسعفين.
في وسط الزحام، سقط رجل آخر على الأرض مغشيًا عليه من الدخان والاختناق. تجمع حوله الأهالي يحاولون إفاقته، بينما هرع أحد شباب الهلال الأحمر نحوه، أعطاه أنبوب أكسجين صغيرًا وقال: «اتنفس بعمق! كله هيعدّي»، الرجل فتح عينيه بصعوبة، ثم بدأ يردد: «الحمد لله… كنت بفكر في ولادي وأنا جوه المصنع. الحمد لله إنهم بخير».
في الجهة الأخرى، كانت سيدة ثلاثينية لا تزال ممسكة بيد ابنها. عيناها تحملان خوفًا وغضبًا في آنٍ واحد، وكأنها تسأل السماء: «لماذا نحن؟ لماذا دائمًا نحن؟». الابن، الذي بدا قويًا من الخارج، كان يحمل داخله هشاشة شاب فقد أخاه من قبل في حادث ويخشى أن يفقد كل شيء الآن.
وسط الفوضى، كان رجال الهلال الأحمر يتنقلون بين الناس، بينما تتعالى أصوات الأدعية من أفواه الأهالي. «يا ربّ، سلّمنا! يا ربّ، برد النار دي!»، كان الدعاء يتردد كأنهم يحاولون تهدئة غضب النار بالكلمات. البعض كان يردد الأدعية بصوتٍ مرتعش، وكأنها درعٌ تحميهم من هذا البلاء.
لجنة التضامن الاجتماعي تبدأ حصر خسائر الزرايب
كانت سيدة محنية الظهر تمسك بمسبحتها الصغيرة، تردد: «يا لطيف الطف بنا!»، بينما دموعها تسيل بلا توقف. بجوارها وقف رجل مسن، يرفع يديه إلى السماء، صامتًا للحظة، ثم قال بصوتٍ مختنق: «يا ربّ، العوض عليك. الناس دي ملهاش حدّ غيرك!».
بعد 5 ساعات كاملة، أعلنت قوات الحماية المدنية السيطرة على الحريق. لكن السيطرة لم تكن كافية لإعادة الأمل إلى وجوه الناس. لجنة من وزارة التضامن الاجتماعي وصلت بعد دقائق من إطفاء النيران، وبدأت في حصر الخسائر.
«3 عرائس خسرن أجهزتهن بالكامل، منازل تحوّلت إلى أنقاض، ومصانع كانت هي مصدر الرزق الوحيد لعدد كبير من العائلات احترقت بالكامل»، قال أحد أعضاء اللجنة وهو يدوّن ملاحظاته، التي أبداها الأهالى المتضررون.
في الوقت ذاته، وصلت النيابة العامة وبدأت تحقيقاتها. وسألت الأهالى ورئيس الحى: «هل كانت المصانع مرخصة؟ هل كان هناك أي تجهيزات أمان؟ لماذا لم يتم صيانة المعدات القديمة؟».
وأصدرت النيابة قرارًا بتشكيل لجنة هندسية لفحص المصانع المتضررة والتأكد من مدى صلاحية العمل فيها مستقبلًا، مع إلزام أصحاب المصانع باتخاذ تدابير السلامة اللازمة. كما طلبت النيابة استدعاء أصحاب المصانع للاستماع إلى أقوالهم.
في المساء، عندما هدأت النيران وذهب الجميع إلى منازلهم، كان الحي أشبه بمدينة أشباح. الدخان لا يزال يتصاعد من بين الأنقاض، ورائحة البلاستيك المحترق تملأ الأجواء.
أم «مينا» جلست على عتبة منزلها الذي طالته النيران، تمسك يد ابنها بقوة، كأنها تخشى أن يبتعد عنها: «يا حبيبى، النار دي مش بس حرقت المكان… دي حرقت قلوبنا كمان»، رد الابن بصوت خافت: «بس إحنا هنقوم تاني، يا أمي. زي ما قمنا قبل كده».
حريق منشأة ناصر
حريق الزرايب