يوم الوردة
فى الرابع من نوفمبر وُلدت الوردة، قبلها كانت قد استقرت الجبال والأنهار والسماء، لكن العالم لم يكن جميلًا، كان ثمة شىء ينقصه إلى أن وُلدت الوردة، فصار للدنيا لون ومغزى، فظهرت القصائد والمصر اليوم، الأغنيات وانفعالات القلب العميقة، الفرح وذلك الشوق الذى يحفر مجراه بحد السكين، ثم المكابدة لأنك لا ترى المحبوب، والتعب من غيابك، والتعب من حضورك فى الغياب، كأنك قمر لا أراه لكن أمشى على نوره من يوم الرابع من نوفمبر عندما بدأت أشعر أننى أطلقك من صدرى مع كل زفير، وأشدك إلىّ مع كل شهيق، وتمسك بك عيناى فى أحلامى، أغمض جفنى على وجهك، أفتحهما بعد قليل فترفرفين لحظة فى الهواء، وما تلبثين أن تعودى إلى قلبى تتأرجحين بين النبضة والأخرى، بين اندفاع الدم وانحساره، تجلسين وركبتاك لأعلى، وقد عقدت يديك فوقهما، تشيحين بوجهك عنى، ثمة شوق فى روحك، لكنك لا تتكلمين، فقط تتطلعين بعيدًا، وأجدك ملء روحى كل لحظة، وأجدك لست معى. أى عذاب تكتبينه برقتك؟، وأى هلاك يطل من عينيك الجميلتين؟
قدماك الأرض وعيناك السماء، قمر فى الليل وشمس فى النهار. النسيم أنفاسك والحقول خطوك، ما من شىء فى الدنيا ليس أنت، كيف إذن لا أجدك؟ لا ألقاك؟ وأنا أفتش عنك منذ الرابع من نوفمبر، عندما أصبح الزمن شوقًا أقوم فيه بالأشياء الأخرى؟. أحاول أن أحرر نفسى منك، من قيدى، فأمد يدى لأنتزعك من روحى، فإذا بقلبى كله يخرج فى يدى مندفعًا إليك، ويظل تحت خيوط البرق والمطر يتصيد خيالك وراء ستار النافدة وأنت تتحركين بهدوء وصمت، كأنما لم تسمعى رفة القلب تدوى بين السماء والأرض مثل طائر جريح. أحببتك فيما مضى عندما لم أكن أعرفك، عندما كانت الجبال والأنهار والسماء قد ظهرت، وأنت لم تولدى بعد، وأحببتك كل لحظة، لأن الله جعلك فى زمنى من بين مليارات السنين، لأنك مقسومة لى منذ الرابع من نوفمبر، مثل العطر ومثل الخنجر، مجذوب إليك ورأسى يدور من عينيك.
إلى متى تظل يداك معقودتين فوق ركبتيك، تتأرجحين بدمى وتتطلعين إلى نقطة بعيدة؟ إلى متى تظلين حلالًا على خيالى حرامًا على قلبى؟ الذى كتب علينا المحبة كتب علينا الفراق، فراق الوردة عن الغصن، فيبقى عطرها فيه، ويبقى دمه فى أوراقها. وها نحن نطارد العطر الضائع، وأقف وحدى على الشاطئ كأن العالم سفينة أبحرت من دونى وتركتنى وحدى على الشاطئ. أمضى راجعًا وأنا أتلفت من وقت إلى آخر بأمل أن تكون كفك قد استقرت على كتفى، وأن أسمع صوتك ينادينى. لكننى لا أشعر بكفك، ولا أسمع صوتك، يتلفت قلبى ولا يراك ويرتجّ كيانى كله لأننى لا أرى سوى دخان يعلو من قلب يحترق، وأقول لنفسى وأنا أواصل السير «ما زال المدى كله لا يتسع لشعورى»، وتغمرنى الخيالات، كل خيال أنت فيه جميلة، وكل خفقة أنت تثبين فيها، تلوحين بيديك، تصيحين، تنظرين إلىّ، ثم تشيحين ببصرك نحو نقطة بعيدة. فيمَ تفكرين وأنت تبسطين جناحيك وتحلقين عاليًا؟ أى انفعال يعتصر قلبك؟. فى الرابع من نوفمبر وُلدت الوردة، وظهرت القصائد والمصر اليوم، وترسخ الشوق الذى لم يكن معروفًا، واللهفة، وانفعالات القلب العميقة، والأمل.