قضيتان في عام مصري جديد | المقالات والدراسات
تستحق مصر الدخول إلى العام الجديد وهي تتخفف من كثير من الأعباء، وتفتح أبوابًا جديدة للأمل تطل منها على الحرية والتنوع والاختلاف الممنوع!
على مدى السنوات العشر الأخيرة، أثقلت القيود غير المسبوقة المفروضة على الحياة العامة كاهل البلد، حاصرت التنوع ونفت التعددية.
اختارت السلطة أن ترهق نفسها ومعارضيها بمعارك خصمت من حيوية المجتمع، وكبلت طاقاته، فانسحب من المشهد كثير من الجادين والموهوبين والمخلصين، ولاذوا بالصمت أو الإحباط أو كليهما معًا.
على عتبات عام جديد، باتت مراجعة تجربة السنوات الفائتة أمرًا لا مفر منه، وواجب اللحظة الذي لا ينبغي أن يتأخر.
والبداية من السياسة، فلا تقدُّم يمكن أن يحدث على أي مستوى دون أن تكون هي المدخل والمقدمة والقائد الذي ينير الطريق.
في القلب من أي مراجعة مطلوبة، تظهر قضيتان هما الأهم في سبيل التقدم بخطوات إلى الأمام هما: سجناء الرأي والمجال العام المغلق.
سجناء الرأي أولوية
في الثالث من مايو/أيار 2023، انطلقت جلسات الحوار الوطني في مصر.
شهدت الجلسة الافتتاحية حضورًا واسعًا وطيفًا متنوعًا ما بين المعارضة والموالاة، وتنوعت كلمات المشاركين التي بدت وكأنها تعبّر عن حالة حوار مفقودة في المجتمع منذ أكثر من عشر سنوات، وشعر البعض بأنها ربما تكون محاولات لفتح صفحة جديدة تعبر بالمجتمع إلى مرحلة سياسية أنضج وأكثر حرية.
وقتها ربطت أحزاب المعارضة الرئيسية مشاركتها في الحدث بالإفراج عن سجناء الرأي كمقدمة وبادرة إيجابية تضفي مزيدًا من الجدية على الحوار، وتمنح الأمل لكل الذين شككوا في جدواه أو في إمكانية أن يصدر عنه ما يخدم السياسة والحياة العامة في البلد.
أفرجت السلطة عن نحو ألف سجين سياسي، وتعهدت بالإفراج عن المزيد مع تقدُّم جلسات الحوار والوصول إلى مساحات اتفاق جديدة، وشُكلت لجنة للعفو الرئاسي تتابع حالات سجناء الرأي وتتواصل مع السلطة بشأنهم.
مع الوقت وانطفاء وهج الحوار وتراجع الأمل لدى الجميع في إمكانية أن يحقق شيئًا مهمًّا ومؤثرًا، تراجعت السلطة عن وعودها، وتوقفت قرارات العفو وإخلاء السبيل، وعاد إلقاء القبض على الناشطين السياسين من جديد بعد أن ظن البعض أنه قد توقف.
في ملف سجناء الرأي الثقيل إرهاق للبلد وإهدار لطاقته، وعصف بأي إمكانية لحياة سياسية جادة أو شبه جادة.
آلاف من سجناء الرأي في مصر قُيدت حريتهم باتهامات لا تتجاوز الكتابة على شبكات التواصل الاجتماعي أو المشاركة في احتجاجات سلمية أو انتقاد حاد لسياسات عامة.
بدون تصفية هذا الملف المزعج لا يمكن حدوث تقدُّم سياسي في بلد يعاني حصار الحياة العامة منذ أكثر من عشر سنوات، وفي العام الجديد بات التعامل الجاد مع هذا الملف ضرورة كبرى.
وضع السياسيون والمثقفون معايير واضحة يمكن أن تكون المقدمة للإفراج عن سجناء الرأي جميعًا بلا استثناء، أولها ألا يكون السجين قد شارك في عمليات عنف أو إرهاب.
باستثناء المشاركة في الإرهاب، فإن كل السجناء السياسيين يستحقون الحرية، ويكفي ما ضاع من أعمار شباب حلموا ببلد حر وديمقراطي، وسعوا لأن تصل مصر إلى ما تستحقه من حرية وكرامة واحترام للحق في التعبير السلمي.
بدون تصفية هذا الملف لا يمكن التقدم إلى الأمام، وفي الخلاص منه مكسب مؤكد للمجتمع يدفعه إلى الاستقرار، ويمنحه الأمل في ظرف إقليمي ودولي بالغ الصعوبة.
عسى أن يكون 2025 هو المنقذ من عبء ملف سجناء الرأي وبداية الخلاص منه إلى الأبد.
مجال عام حر
منذ أيام تواترت الأخبار عن حزب سياسي جديد سيخرج إلى النور، يضم في عضويته عددًا من السياسيين المعروفين والوزراء ورجال الأعمال والنواب السابقين.
بدا الأمر وكأن ترتيبات تجري في أروقة السلطة لخروج الحزب الجديد قبل بدء إجراءات الانتخابات البرلمانية التي تجري في النصف الثاني من العام المقبل.
أحاديث النميمة السياسية حجزت عددًا لا بأس به من مقاعد مجلس النواب الجديد للحزب القادم من الخلف!
في طريقة تقديم الحزب الوليد وتكثيف النشر عنه ما يوحي بأن هناك اتجاهًا ليصبح رقمًا مهمًّا في المشهد السياسي.
لا أزمة في خروج حزب أو ألف حزب إلى النور، لكن المؤكد أن “هندسة” الحياة السياسية على هذه الطريقة لا يمكن أن تبني مسارًا صحيحًا لمجال عام جاد ومتاح للجميع.
خلال عشر سنوات اختارت السلطة حصار الأحزاب بقيود لا يمكن حصرها، وحالت الملاحقات الأمنية دون قدرة أحزاب المعارضة على الوصول إلى الناس أو طرح الأفكار والرؤى والبدائل.
تسلُّط غير طبيعي جرى على المجال العام، ووضعه في دائرة الاستهداف، وفرض عليه قدرًا كبيرًا من المنع والتقييد.
أي رغبة في صنع مجال عام جديد لا يتيح حرية الحركة للأحزاب، ولا يسهّل إجراءات خروجها القانوني للنور، ولا يرفع يد الملاحقات والحصار عن الحياة السياسية، لا يمكن التعويل عليه.
المواطن، لا السلطة، هو من يرسم خرائط الأحزاب ويحدد مدى قوتها وجديتها وتعبيرها عنه، وكلما تمادت السلطة في وضع القيود على المجال العام فقدَ المشهد قدرته على التعبير عن الناس وأزماتهم وعن المجتمع وهمومه.
بمساحة كافية من الحرية يعود للمجال العام حيويته وتأثيره ودوره المهم، وبلا حرية وتعددية وتنوع لا سياسة ولا أحزاب يمكن أن تكون ذات شأن أو تأثير أو إقناع.
عام الحرية
مصر تحتاج إلى الحرية وتستحقها.
في حسابات السياسة أضحى الاحتياج إلى التغيير في مصر واضحًا وغير خفي.
التغيير يبدأ من السياسة لا غيرها.
بداية أي تغيير في عام 2025 ينطلق من إدارك السلطة أن مصر بلد كبير ومتنوع، لا يمكن اختصاره في شخص أو حزب أو جماعة.
باقتناع الجميع باحتياج البلد إلى واقع سياسي جديد تستحقه مصر يمكن البدء.
من قضيتَي سجناء الرأي وحرية المجال العام، ووسط قوانين تضع قواعد عادلة ونزيهة لممارسة سياسية سلمية، يمكن أن تقفز مصر خطوات مهمة ومطلوبة إلى الأمام، في واقع إقليمي مضطرب يتغير كل يوم عن اليوم الذي يسبقه.
من أراد أن يصبح 2025 بداية جديدة لواقع سياسي أفضل، عليه إدراك ضرورة القطيعة مع السنوات العشر السابقة، والإيمان بأن مصر وشعبها يستحقون الحرية، ولتكن البداية من إطلاق سراح سجناء الرأي وفتح المجال العام للمنافسة السياسية الحرة.