عودة السوريين بين الارتياح العام وخسارة الاقتصاد التركي
17/1/2025–|آخر تحديث: 17/1/202508:06 AM (توقيت مكة)
مع استمرار تدفق اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا إلى المعابر الحدودية بغية العودة إلى ديارهم، تنفس الكثير من الأتراك الصعداء، وسادت حالة من الارتياح بين الرأي العام خاصة الأوساط الشعبية، التي تطمح في أن تؤدي هذه العملية إلى انخفاض ملحوظ في أسعار السلع الأساسية، والقيمة الإيجارية لأماكن السكن، وفق ما كانت تؤكد عليه تصريحات المسؤولين في المعارضة التركية.
حيث اعتاد قادة الأحزاب توظيف ملف اللاجئين السوريين في دعاياتهم الانتخابية، وإلقاء مشكلات المجتمع التركي ومعاناته كافة من جراء الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بالبلاد على كاهل اللاجئين السوريين باعتبارهم السبب الرئيس لحالة الانهيار التي يعانيها اقتصاد الدولة، في تجاهل متعمد للأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الوضع كالمتغيرات الدولية، والتوترات الإقليمية.
تفاؤل زائف وإشكاليات متباينة
عودة اللاجئين السوريين تعني بالنسبة لملايين الأتراك انتهاء الأزمة، وتحسن مطرد في الاقتصاد، وارتفاع لقيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية الأخرى خاصة الدولار، وهو ما ينعكس على انخفاض الأسعار سواء فيما يخص الخدمات، أو السلع الاستهلاكية بأنواعها، أو قطاع العقارات شراء وتأجيرا.
وفي خضم حالة التفاؤل هذه برزت العديد من الإشكاليات الاقتصادية والتحديات الجديدة المتوقع أن يعانيها الاقتصاد التركي في المنظورين القريب والمتوسط على أقل تقدير، خاصة في قطاعات حيوية متعددة تعتمد بشكل أساس على الأيدي العاملة السورية، وما يرتبط بها من استثمارات، وهو ما لم يضعه مطالبو ترحيل السوريين في الحسبان.
فعلى الرغم من رحيل آلاف السوريين خلال المدة القليلة الماضية، وخلو أماكن سكنهم، إلا أن أسعار الإيجارات ارتفعت بقيمة 60% مع بداية العام الجديد، وفق بيان وزارة المالية، الجهة المنوط بها تحديد نسبة الزيادة، بما يتناسب مع نسب التضخم كل ستة أشهر.
ما يعني أن ارتفاع قيمة إيجارات المنازل لم يكن سببها في يوم من الأيام زيادة عدد اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، وإنما المسألة كانت ولا تزال تخضع في المقام الأول إلى حجم انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار، وارتفاع نسبة التضخم.
وهو ما ينطبق على أسعار السلع في العموم سواء الأساسية منها كالمواد الغذائية، والأدوية، أو الرفاهية كالمقاهي والمطاعم ودور السينما والمسرح وغيرها.
مشكلات اقتصادية وفجوات مهنية
ومع رحيل السوريين ظهرت مشكلات اقتصادية أكثر عمقا وتأثيرا في عجلة الاقتصاد التركي، إذ على مدى 13 عاما قضاها السوريون في تركيا نجحوا في سد فجوة كبيرة في العديد من القطاعات والمهن التي يعزف الأتراك عن امتهانها وممارستها، إما لصعوبتها أو لقلة عوائدها، كقطاع الزراعة.
إذ واجهت تركيا قبل مجيء السوريين مشكلة كبيرة في هذا القطاع الحيوي، نتيجة رحيل أعداد كبيرة من الأسر التركية عن قراهم وأراضيهم الزراعية، التي تحولت إلى مناطق مهجورة فاقدة لمقومات الحياة، وهو ما تسبب في أزمة حقيقية، خاصة وأنه القطاع الذي تعتمد عليه الدولة في توفير الغذاء محليا، وفي زيادة حجم مخزون بنكها المركزي من العملات الأجنبية لما يتم تصديره من مختلف هذه المنتجات إلى الأسواق العالمية.
إلا أن هذه المشكلة بدأت تتقلص شيئا فشيئا بعد وصول آلاف من العمال السوريين إلى مختلف المدن التركية، الباحثين عن العمل بأي أجر يؤمن لهم أساسيات الحياة البسيطة من مسكن ومأكل، حيث وجدوا في هذه المناطق غايتهم المنشودة بعيدا عن ضجيج المدن وارتفاع أسعارها، ومشاكلها التي لا تنتهي، وبفضل هذه العمالة تم إعادة استصلاح أراضي أعداد كبيرة من القرى المهجورة التي عادت لتنبض بالحياة من جديد.
تهديدات تواجه الثروة الحيوانية
يرتبط قطاع الثروة الحيوانية برابط قوي مع قطاع الزراعة، لذا بدأت فعلا الأصوات تتعالى محذرة من أن عودة السوريين إلى بلدهم سينعكس سلبا على هذا القطاع المهم، فالأتراك لم يعد لديهم الرغبة في ممارسة مهنة الرعي لمشقتها، وصعوبة الاندماج فيها.
والسوريون الذين تولوا هذه المهمة خلال العقد الماضي منهم من رحل فعلا، ومنهم من يستعد للرحيل، ما يعني انخفاض حجم الإنتاج الحيواني وما يرتبط به من صناعة الألبان ومنتجاتها، الأمر الذي يعني ارتفاع متزايد لأسعارها خلال المدة المقبلة، نظرا للارتفاعات التي ستواجهها عمليات الإنتاج حال الاستعانة بعمالة تركية أو حتى عمالة من دول أخرى لسد العجز في هذا القطاع.
أما في قطاع دباغة الجلود الذي تشتهر به تركيا فأزمته بدأت مبكرا فعلا، حيث يعتمد القطاع على قرابة 10 آلاف عامل سوري، ومع بداية الهجرة العكسية انخفض إنتاج المعامل بنسبة تصل إلى حوالي 30%، مما يعني أن هذا القطاع سيواجه أزمة متفاقمة مع انتهاء العام الدراسي، وبدء عودة ملايين السوريين إلى بلادهم.
ولا يختلف القطاع الصناعي خاصة قطاع النسيج والملابس الجاهزة عن سابقيه، إذ بدأت بوادر الأزمة تظهر بوضوح عليه مما يعني عرقلة تدفق ملايين العملات الأجنبية على الاقتصاد التركي التي كان يتم جنيها بوساطته.
إذ أظهرت العديد من التقارير المصورة على الفضائيات المحلية ورش الخياطة، ومصانع النسيج وهي خاوية على عروشها بعد انقطاع أعداد كبيرة من العمال السوريين عن العمل، ويشكو أصحاب هذه المهن من صعوبة تعويض العمالة السورية واستبدالها بالعمالة التركية، لرفض الأخيرة تقاضي الأجر نفسه الذي كان يتقاضاه السوريون، كما يطالبون بالحصول على العديد من الامتيازات المرتبطة بالتأمينات الاجتماعية والصحية، ومصاريف للنقل، ووجبة الغذاء، وهو ما لم يكن يطالب به السوريون.
ومن المتوقع أن يعاني قطاع النسيج الذي يشمل الخيوط والأقمشة، والملابس الجاهزة، والسجاد، نقصا شديدا في العمالة، يتوقع الخبراء أن تصل نسبتها إلى حوالي 60%، ما سيكون له انعكاسات سلبية على المعروض من هذه المنتجات في الأسواق المحلية وأسعار بيعها، إضافة إلى حجم ما سيتم تصديره منها خلال المرحلة المقبلة.
أسباب قرار الرحيل عن تركيا
ربما يكون السبب الرئيس وراء قرار العمالة السورية السريع بالرحيل عن تركيا -حتى قبل استقرار الأوضاع في بلادهم- ليس فقط لسقوط نظام بشار الأسد، وإنما نتيجة الظروف الصعبة التي تحملوها مرغمين على مدى السنوات الماضية، كالقبول برواتب منخفضة، والعمل دون تأمين صحي أو اجتماعي، وعدم الأحقية في المطالبة بالتعويضات القانونية نتيجة الطرد أو الإصابة في أثناء العمل، فضلا عن المعاناة نتيجة تزايد الحملات العنصرية ضدهم، التي أودت بحياة العديد منهم دون ذنب أو جريرة.
ووفقا للبيانات الرسمية الصادرة عن وزارة التجارة التركية، فإن اللاجئين السوريين دعموا الاقتصاد التركي على مدى 13 عاما بتأسيس أكثر من 10 آلاف و500 شركة، بإجمالي استثمارات تخطت الـ11 مليار دولار، وتم توظيف الكثير من العاملين الأتراك والمساهمة في الحد من نسب البطالة التي تبلغ 10%.
المعارضة التركية والإصرار على المكابرة
وهي الاستثمارات المتوقع تحولها مجددا إلى الداخل السوري مما يعني خسارة تركيا لجزء من رأس المال الأجنبي العامل لديها، ما يضع الحكومة التركية أمام معضلة تحتاج إلى حلول عملية سريعة لمواجهة سلبيات عودة السوريين على القطاعات الصناعية والخدمية، وتوفير البدائل لسد الفجوة في سوق العمل لديها لمنع الارتفاع المتوقع في تكاليف الإنتاج، وزيادة الأعباء التشغيلية للمصانع التركية التي استفادت على مدى السنوات الماضية من العمالة السورية الرخيصة، والمتوقع أن تعاني لعدم وجود بديل جاهز لتسريع عملية الإحلال والتبديل.
ورغم ما تمثله هذه الأرقام والإشارات من خطر، وما صاحبها من دعوات تحذيرية نتيجة غياب العمالة السورية المفاجئ، والمطالبة بضرورة التروي قليلا في هذا الأمر، إلا أن أحزاب المعارضة التركية لا تزل تكابر، وترى أن عودة السوريين إلى بلادهم لن تؤثر في الاقتصاد التركي سلبا على الإطلاق، وأنها تتيح آلاف الفرص أمام آلاف الأتراك الباحثين عن عمل.