عندما يعكر الاستبداد المزاج العام في الصين!
تشهد الصين تغييرا واسعا بالمزاج العام، ظهر أثره السيئ مع انتشار جرائم “الانتقام من المجتمع” التي أفزعت السلطات، جعلت الرئيس شي جينبينغ يصدر الأسبوع الماضي، تعليمات للمسؤولين بسرعة محاربة الظاهرة ومنع تكرار ارتكابها، بعد أن قتل الغاضبون عشرات الأبرياء الشهر الماضي.
دهس رجل أعمال 30 طفلا بمدرسة ابتدائية بمقاطعة هونان جنوب البلاد بعد أن خسر تجارته، وأقدم طالب رسب بالامتحانات على قتل 8 أشخاص بمدرسة مهنية، ودهس شاب 35 شخصا بسيارة قادها بجنون تجاه المارة، للتعبير عن غضبه من حصول زوجته على حكم بالطلاق.
يرجع “وو تشانغ” أستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة تسنغوا الحوادث المروعة إلى “انفجار اجتماعي يعكس شعور القائم بتلك الجرائم بالظلم وأن المجتمع غير عادل بدرجة لن تمكنه من تحمله على الإطلاق”.
في مقابلة مع صحفية” قال “وو تشانغ”: إن السلطات دمرت المجتمع المدني على مدار العقد الماضي، الذي كان نشطا ويرصد تلك الظواهر، ويساهم بوضع حلول لها قبل تمددها والانفجار”.
كعادة الأنظمة الاستبدادية، اختارت السلطة وضع الناس تحت المراقبة، وحظر كل ما يكتب حول مشاكلهم من أمور ولو بسيطة كالميراث والسكن والأجور غير المدفوعة أسوة بما تنشره عن جرائم ترتكب يوميا بالدول الغربية.
أرادت السلطة الترويج لمجتمع خال من الجريمة بتعمية الشعب، حتى لا يحدث الانفجار، وها قد وقع دون قدرة الأجهزة الأمنية التي تدير 550 مليون كاميرا مراقبة بالشوارع على رصد الغاضبين الذين انتشرت جرائمهم عقب اعتداءات مماثلة ضد يابانيين وأمريكيين.
سباق الفئران
تشهد المدن المزدهرة الكبرى هجرة عكسية، إذ سئم الناس من “سباق الفئران” والعيش بين غرف مساحتها 10 أمتار و30 مترا مربعا لا ترى الشمس، في ظل منافسة شرسة يخنقهم انخفاض الدخل والبطالة والإيجارات الباهظة، ووظائف تصيبهم بالسكتة القلبية من كثرة العمل.
فشلت السلطات في دفع الناس نحو السفر وقضاء إجازات رأس السنة، التي طالما عارضتها من منظور قومي، بعد أن تضاعفت أسعار الرحلات داخل البلاد، والطويلة المتجهة إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا، والقصيرة المتجهة إلى هونغ كونغ وسنغافورة واليابان وماليزيا.
يختار المسافرون الأغنياء المدن القريبة التي توفر لهم قيمة كبيرة مقابل المال، أما شديدو الثراء فيتجهون إلى دبي حيث يمكنهم الاستمتاع بفتح حسابات سرية والمشتريات الفارهة، وارتداء الملابس الفاخرة والساعات الثمينة، التي يخشون الظهور بها في بلدهم، خوفا من هجوم رجال السلطة القوميين الرافضين لهيمنة البرجوازيين على الثروة.
تغيرت عقلة المستهلكين، فأغلبهم يفضلون البقاء على مستوى منخفض من الاستهلاك، يشترون ما يحتاجونه لضرورة، عبر العروض الرخيصة ويبحثون عن الملابس التقليدية غير المبهرجة، التي تدوم موضتها لفترات طويلة.
تقلصت مبيعات التجزئة في بيجين وشنغهاي بنسبة 14٪ خلال نوفمبر الماضي، رغم وجود جاليات أجنبية ومسيحية كبيرة تستعد لأعياد الميلاد.
تتأثر الأسواق باستقطاب الثروة في يد نخبة من المواطنين، التي يُحرم أغلب السكان من الحصول على عائدات أكبر من الناتج الإجمالي، وتدفع ذوي الدخل المنخفض والطبقة الوسطى لعمل إضافي مضن لساعات طويلة لضمان وظيفتهم. يؤثر انخفاض الاستهلاك على أداء الشركات، التي تخفض التوظيف بما يدخل البلاد بدائرة مفرغة بين بطالة متصاعدة، وتراجع الاستهلاك.
رغم توسع الطبقة الوسطى لتمثل 32٪ من السكان عام 2021، عقب انتشال نحو 500 مليون مواطن من الفقر بعهد شي جينبنغ، وشن حملات واسعة على الفساد طالت وزراء وقيادات بالدولة، وتعهد وزارة المالية مؤخرا بزيادة معاشات التقاعد ودعم التأمين الطبي والدعم المالي لمساعدة المواطنين على زيادة الاستهلاك فإن البنك الدولي يعتبر 55٪ من السكان ” غير آمنين اقتصاديا”.
قرشك تحت ضرسك
مشاكل الصين معروفة بدقة، من قبل أبنائها بالمراكز البحثية والجامعات والمؤسسات المالية، وتتركز بسوق عقارات فاسد دخل في حالة ركود طويلة الأمد، وديون وقروض معدومة هائلة وتدهور مالي للحكومات المحلية، وقطاع خاص واقع تحت ضغوط سياسية صارمة، ومستهلكين امتنعوا عن الإنفاق وعادوا إلى طريقة العيش على طريقة ما قبل عصر الانفتاح، وفقا للمبدأ الشعبي “على قد لحافك مد رجيلك” و” قرشك تحت ضرسك ينفعك باليوم الممطر”.
يرجع خبير السياسات والعلاقات الدولية بجامعة لانزو الصينية تشنغ شين تشانغ تردد المواطنين في زيادة استهلاكهم إلى ندرة المال بأيدي أغلبية الشعب، مبينا في تحليل نشره بجريدة ساوث تشاينا مورنينغ بوست الأسبوع الماضي، استقطاب 10٪ من ذوي الدخل الأعلى بالصين لنحو 43.5٪ من ثروة الدولة عام 2023، بارتفاع 13.5٪ عن مطلع القرن الحالي.
أفرغت الأرقام مجتمع ” الازدهار المشترك” من مضمونه الاشتراكي الذي يسعى إليه الرئيس. فالأغلبية غير القادرة على مواجهة أعباء الحياة تتزايد ويشدها الحنين للماضي حيث الحياة أبسط وأكثر أمنا، في تضاد مع واقع رمادي تتنامى فيه ثروة أصحاب الغنى الفاحش التي تقترب من ثروة المليارديرات بالولايات المتحدة المسجلة بنسبة 46.8٪ من ثروة الأمة، وأعلى من بريطانيا 36.2٪ وكوريا الجنوبية 35.5٪ وفرنسا 34.3٪. مع ذلك فإن عدد الأثرياء في تراجع.
تقلص عدد المليارديرات بقيمة ثروتهم بالدولار من 520 إلى 427 مليارديرا عام 2023، بينما انخفض عدد الأسر التي تمتلك 100 مليون يوان (الدولار= 7.3 يوان) بمقدار 5200 مليونير، وذوو العشرة ملايين فقدوا 27 ألف مليونير.
يفتقر المستهلكون إلى الثقة، في سوق أصبحت الحكومة والشركات غارقة في الديون، ومجتمع يعاني من تراجع الضمان الاجتماعي وتوزيع الثروة وحقوق العمل، فرغم انخفاض مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 7.4٪ من يناير إلى سبتمبر 2024، زادت ودائعهم تحت الطلب بالبنوك خلال نصف العام الجاري بنسبة 6.8٪، بما يعكس عدم الرغبة في الصرف والتحوط لتجنب المخاطر، بشراء السلع أو العقارات التي تمثل 30٪ من الناتج الإجمالي بالدولة.
الحرية أولا
تعمقت المشاكل الاقتصادية، لدرجة بددت آمال التعافي السريع، مع رغبة النظام الصيني الاستفادة من حرية السوق دون تعميم حرية الأفراد والمبادئ المرتبطة بها من حرية تداول المعلومات وبناء مؤسسات مجتمع مدني ومنظمات أعمال قادرة على حماية استثماراتها ومنع احتكار اقتصاد الدولة من النخبة السياسية والعسكريين وزمرة رجال الأعمال الذين يديرون بفلك النظام.
قال الخبير الاقتصادي بجامعة بيجين تشانع وي ينغ إن الاقتصاد الصيني لن ينصلح بسياسات نقدية أو مالية، تُخفض سعر الفائدة وتزيد نفقات الحكومة وتمول مشروعات الإسكان، مؤكدا أن كل هذه الأمور تظل ثانوية لقيم الحرية وسيادة دولة القانون. فهناك ما يشبه الإجماع بين الخبراء على أن الصين ستشهد حتما تباطؤا طويل الأجل، لن يتحرك طالما ظلت الاختيارات السياسية رديئة لأنه بدون الإصلاح السياسي والانفتاح الذي مكن الصين من القفز على مشاكلها في الماضي، ستظل الصين في حالة ركود.
لم نر رفاهية مستقرة لمجتمع يحيا في ظل قبضة استبدادية تحول دون قدرة الناس على استثمار وإنفاق أموالها كما تشتهي، ويصب في صالحها وعموم الناس، وتحرمه من إعلام حر يرفع صوت الشعب ولو كان غاضباً وبرلمانات ووسائل رقابية تضمن العدالة والمساواة بين الموطنين أمام القانون، والكرامة للجميع.