رسالة ترامب للعالم في العام الجديد | المقالات والدراسات
خاض الرئيس المنتخب دونالد ترامب حملته الانتخابية على أساس سياسة تعزل بلاده عن الصراعات الخارجية مثل الحرب في أوكرانيا، لكن في الأيام الأخيرة، أشار إلى توجه أكثر تطرفًا في سياسته الخارجية.
ترامب أمضى، يوم الميلاد، بكتابة منشورات على موقعه الإلكتروني “تروث سوشيال” بلغ عددها نحو ثلاثين، أوضح فيها نية العملاق الأمريكي تعميق النزعة العسكرية، ومواصلة اللجوء إلى القوة لفرض الهيمنة الأمريكية في مواجهة صعود التنين الأصفر.
وفي البداية، مازح الرئيس المنتخب بشأن إمكانية أن تكون كندا ولاية أمريكية إضافية، وهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما، مشيرا إلى أن الصين تمارس نفوذا “غير قانوني” على الممر المائي المهم، بينما واشنطن تصرف مليارات الدولارات على “صيانة” القناة، دون أن يكون بإمكانها التدخل في “أي شيء” على الإطلاق.
وفي بدايات الشهر الجاري، هدد (حماس) بضربة قاصمة في حال عدم إطلاق سراح الرهائن قبيل تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني.
وأوضح ترامب في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي: “سيتلقى المسؤولون ضربات أشد من أي ضربات تلقاها شخص في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الطويل والحافل”.
وقبلها بيومين حذر الدول الأعضاء في مجموعة “البريكس”، وهي مجموعة من الاقتصادات الناشئة التي تدعمها الصين وروسيا، من مواجهة رسوم جمركية بنسبة 100%، إذا شرعوا في إنشاء عملة جديدة للابتعاد عن الدولار.
العالم على أبواب الفناء الشامل
توجهات ترامب، لا تختلف كثيرا عن طريقة تعاطي بايدن، مع الغزو الروسي لأوكرانيا و”طوفان الأقصى”، التي تعكس مدى التغير الذي طرأ على الإمبريالية الأمريكية.
الحرب الروسية اعتبرتها واشنطن فرصة لإعادة فرض هيمنتها على أوروبا، فهي قائدة حلف الناتو، والقادرة على حمايتها من التهديد الوجودي الذي يمثله بوتين.
وقد وصل الأمر إلى استعداد بايدن، للمجازفة بأن تتحول الحرب إلى حرب نووية من خلال السماح لأوكرانيا بضرب العمق الروسي بصواريخ بالستية أمريكية.
ولم يكن يتصور أحد، منذ أزمة الصواريخ الكوبية في بداية ستينيات القرن الماضي، أن تسمح أي إدارة أمريكية بأن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.
عنف وحشي في غزة
ولم تتوان واشنطن عن منح تل أبيب، كل أشكال الدعم، لسحق المقاومة الفلسطينية والتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم “حيوانات بشرية”، لإعادة فرض سيطرتها، على منطقة الشرق الأوسط.
واشنطن جازفت في هذه العملية بشرعية دولة إسرائيل ذاتها، وبانهيار منظومتها الأيديولوجية، من أجل تقليص النفوذ الروسي والإيراني، وهي أهداف طويلة المدى بالنسبة للإدارات الأمريكية المتتالية، سواء جمهوريين أو ديمقراطيين.
وتغاضت عن جرائم الصهاينة البشعة، لتعزيز فرص التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والإمارات والسعودية.
وهكذا، يمكن القول إن الإبادة الصهيونية باتت جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية في المرحلة الحالية، وليست مجرد استثناء مرتبط بجنون نتنياهو، أو حكم تحالفه الفاشي في الدولة الصهيونية.
التغيير في سوريا والصراع الشرق أوسطي
ويمكن النظر أيضا إلى انهيار نظام الديكتاتور بشار الأسد في سياق الرهان الأمريكي الإسرائيلي، على تغيير توازن القوى في المنطقة لصالحهما.
نظام الأسد بالطبع لم يشكل تهديدًا لإسرائيل، بل كان مجرد امتداد للنفوذ الإيراني-الروسي، وممر لوجستي آمن بين إيران ولبنان.
ولكن انهيار النظام السوري، هو أيضًا نتيجة طويلة المدى للثورة السورية في 2011، والتي تمكن النظام السوري ومعه (حزب الله) اللبناني والحرس الثوري الإيراني، من تحويلها إلى حرب أهلية ذات طابع طائفي.
وهو ما يفسر احتفال الجماهير السورية في مختلف المدن بسقوط الديكتاتورية الدموية لعائلة الأسد.
نحن نواجه إذًا حدثًا شديد التناقض، فمن جانب هو نتيجة لتمكن الجيش الصهيوني من تفكيك (حزب الله) في لبنان وتحجيم الدور الإيراني، ومن الجانب الآخر هو نتيجة للنضال الطويل المدى ضد الديكتاتورية السورية، الذي بدأ مع الثورة السورية.
تحديات وجودية
واجهت واشنطن، فشلا ذريعا في العراق وأفغانستان، إلى جانب تحديات مهمة خلال العقدين الماضيين، دفعت الإمبريالية الأمريكية لتكون أكثر وحشية ومجازفة وتطرفا.
ويمكن الانطلاق من الركود الاقتصادي الكبير في 2008، وما مثله من أزمة رأسمالية غير مسبوقة منذ ثلاثينيات القرن العشرين، ليضع مشروع العولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة، في حالة تساؤل كبير على مستوى السياسات الاقتصادية والنتائج السياسية والفرضيات الأيديولوجية.
وجاءت بعده جائحة كورونا، وما أظهرته من نقاط ضعف في سلاسل الإنتاج والاعتماد الأمريكي الكامل على الصناعة في آسيا بشكل عام، والصين بشكل خاص (ومعها الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية)، لتضع صناع القرار في واشنطن في حالة من الارتباك والفزع.
صعود الصين وقوى شبه إمبريالية
غير أن السبب الأكثر عمقا لمأزق الإمبراطورية الأمريكية الراهن، يعود إلى تراجع الحجم النسبي للاقتصاد الأمريكي (من 50% إلى 20% من إجمالي الناتج العالمي)، والصعود الاستثنائي للرأسمالية الصينية (من أقل من 1% في بداية التسعينيات إلى ما يقارب 18% اليوم) ومعها القوة العسكرية الصينية (ثاني أكبر ميزانية عسكرية في العالم، أكثر من 320 مليار دولار)، وتوسع النفوذ الصيني الجيوستراتيجي في آسيا وإفريقيا، والصعود الجديد لروسيا كتهديد (عسكري وليس اقتصادي) للنفوذ الأمريكي في أوروبا.
ليس هذا فقط، بل إن هذا التراجع سمح لنمو دول شبه إمبريالية (تركيا وإيران والسعودية في منطقتنا)، وهي دول وصلت إلى درجة من الحجم الاقتصادي والعسكري، يحتم عليها توسيع نفوذها خارج حدودها.
طبيعة الإمبريالية الجديدة
يعرف عالم الاجتماع البريطاني ديفيد هارفي الإمبريالية الرأسمالية في وقتنا الراهن على أنها هيمنة وسيطرة على المستوى العالمي لها جناحان: الأول اقتصادي (التبادل اللامتكافئ)، والآخر جيوسياسي، وهو الهيمنة على الأرض والاحتكاكات العسكرية بين الدول الكبرى بطريق مباشر أو غير مباشر.
هذا التعريف يترك الطريق مفتوحًا أمام سيناريوهات مختلفة لتكوين الإمبريالية وممارساتها على المستوى العالمي.
فبينما مثلًا نجد الصين، حتى الآن، تعتمد على الجناح الأول للتعريف، نجد أن واشنطن استخدمت يدها العسكرية الخشنة في أكثر من منطقة عبر عمرها الطويل.
وتعتمد الإمبريالية الجديدة، على عملية عالمية الطابع (بعد أن دخل الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة الشرقية والصين السوق العالمية)، هي تشكيل سلاسل لإنتاج القيمة وتوزيع الأرباح، في إطار من سياسات محلية نيو ليبرالية تفتح الأسواق السلعية والمالية.
التصدي لدعاة الحرب ضرورة
غير أن تلك الإمبريالية الجديدة تتشكل في سياق اقتصادي يشهد ميلًا طويل الأجل، لانخفاض معدلات الأرباح العالمية.
وهذا ما يشرح ضراوة التنافس، التي ستتزايد في المستقبل، وكذلك ظاهرة أمولة (financialization) رأس المال العالمي، حيث إن الأمولة هي الوجه الآخر لانخفاض الأرباح، وبالتالي ميل الرأسماليين والاحتكارات الكبرى إلى الاستثمار في الأدوات المالية بدلًا من الاستثمار الصناعي.
وفي هذا السياق، فإن عدم استقرار الرأسمالية يزيد مع تزايد أدوات الائتمان ومشتقاتها، مما يعني تبدلات سريعة في المواقع والأدوار على المستوى العالمي.
هكذا يتفاعل جناحا الإمبريالية، كما يشير هارفي، في محيط واسع من الاحتكارات الضارية التنافس.
الخلاصة أن الحرب على غزة والضفة ولبنان، والتلويح باستخدام النووي، ليست حادثًا استثنائيًا في المنظومة الإمبريالية الحالية، بل ستستمر كما يبشرنا ترامب، مما يستدعي الشروع في بناء حركة تقف إلى جانب الفلسطينيين، وتضع الأساس لمقاومة جماهيرية، لدعاة الحرب وأنبياء عصر جديد من النزعة العسكرية.