خطوات تركية حثيثة لحل المسألة الكردية
تبدو تركيا وكأنها في سباق محموم مع الزمن سعيا للتوصل سريعا إلى حلول جذرية تضع بموجبها نقطة النهاية لحرب الاستنزاف التي يخوضها ضدها حزب العمال الكردستاني منذ أربعين عاما، واجهت خلالها الكثير من العمليات المسلحة والتفجيرات، وحرب العصابات، ومحاولات عناصر الحزب المسلحة الانفصال عن الدولة، وتشكيل كيان كردي يضم جميع القرى والمدن ذات الكثافة السكانية الكردية في منطقة الأناضول، على غرار نموذج دولة كردستان العراق.
خطى تركيا الحثيثة التي ازدادت وتيرتها مؤخرا فاجأت الجميع، خاصة أنها تتحرك على كافة الأصعدة الداخلية والخارجية، ويطلق مسؤولوها تصريحات حادة في كل مناسبة ضد من يدعم كل من تعُدّهم تنظيمات إرهابية تهدد وحدة أراضيها، وأمنها القومي، وكل من يسعى لعرقلة مسيرة الحل التي بدأتها، وتنوي تحقيق أهدافها منها مهما كانت التضحيات.
تساؤلات عدة أثيرت حول الأسباب الكامنة وراء هذا الاندفاع في هذا التوقيت على وجه التحديد، ومدى قدرة الدولة التركية على التوصل فعلا إلى حلول عاجلة ومنطقية في نفس الوقت، ترضي من خلالها جميع أطراف هذه القضية المستمرة منذ أربعة عقود في أربعة أسابيع!
تراهن تركيا في هذا الإطار على التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتأثيراتها السلبية عليها، وما تمثله هذه القضية واستمرارها دون حل من خطورة على أمنها واستقرارها ووحدة أراضيها، في ظل محاولات وحدات حماية الشعب الكردية المسلحة التي تسيطر على العديد من مناطق الشمال السوري تشكيل كيان فدرالي بعيدا عن الحكومة المركزية في دمشق، وزيادة احتمالات اتساع نطاق المواجهات المسلحة في العديد من المناطق الجغرافية المتفجرة المحيطة بها.
وذلك إلى جانب ما يمكن أن يضيفه تنصيب رونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة من توتر إلى هذه الملفات والقضايا الملتهبة في ظل تباين مواقف مسؤولي إدارته الجديدة بشأن العديد من إشكاليات المنطقة، وفي مقدمتها مسألة سحب القوات الأمريكية من سوريا، البالغ عددها أكثر من ألفي جندي.
محاور التحرك التركي لحل المسألة الكردية
تتصدر المسألة الكردية، ووضع حد لها إذن رأس أولويات القيادة السياسية التركية، بعد أن تمت إزاحة نظام حزب البعث، وفرار بشار الأسد من سوريا، وانطلاق موسم الهجرة العكسية للاجئين السوريين من تركيا وعودتهم إلى مدنهم وقراهم التي تركوها منذ 13 عاما، وهو ما يعني للحكومة التركية بداية إغلاق ملف اللاجئين السوريين، وإنهاء الجدل الذي استمر بشأنهم طوال سنوات، دفع خلالها الحزب الحاكم ثمنا باهظا نتيجة سياساته الداعمة لوجودهم، التي اعتبرتها الأحزاب السياسية خطأ بالغا استغلته لمصلحتها في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.
وحتى يصبح التوصل إلى حل للأزمة الكردية أمرا ممكنا، تتحرك الحكومة التركية على عدة محاور متزامنة، إذ أعلنت مبادرة تقضي بإمكانية تسوية أوضاع عناصر حزب العمال الكردستاني القانونية بعد إلقائهم السلاح والتخلي عن المواجهات المسلحة ضد الدولة التركية، ودعوة عبد الله أوجلان زعيم الحزب إلى البرلمان للحديث أمام المجموعة البرلمانية لحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب لإعلان حل الحزب، وإلقاء أعضائه السلاح، والعودة إلى الحياة المدنية، وانتهاء الإرهاب، مقابل النظر في إطلاق سراحه.
ومنحت حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب ثالث أكبر الأحزاب التركية داخل البرلمان، والمتحدث الرسمي باسم الأكراد، ضوءا أخضر للتواصل مع جميع الأطراف المعنية، سياسيا وعسكريا لتسويق بنود هذه المبادرة، سواء بين قيادات الخارج في كل من سوريا والعراق والعواصم الغربية المختلفة، أو قيادات الداخل بمن فيهم عبد الله أوجلان الزعيم الروحي للحركة الكردية التركية، ومؤسس حزب العمال الكردستاني.
وقد قامت الهيئة العليا للحزب، التي اعتبرت هذه المبادرة فرصة تاريخية لبناء مستقبل مشترك بين مكونات المجتمع التركي، بزيارة أوجلان في محبسه بجزيرة إمرالي، إلى جانب التباحث مع قيادات الأحزاب المعارضة التركية الممثلة في البرلمان.
اهتمام إعلامي وشعبي بنتائج المبادرة
وتلقى هذه الخطوات اهتماما إعلاميا داخليا واسع النطاق بهدف وضع الرأي العام التركي في صورة ما يجرى، وإطلاعه على كافة التطورات أولا بأول، منعًا لاستغلال البعض للأمر، ومحاولة بث الفتن وتأليب المجتمع التركي بعضه على بعض، خاصة أن هناك أحزابا أعلنت صراحة رفضها مبدأ المصالحة مع أوجلان ورفاقه.
فحزب الجيد القومي أعرب عن استيائه البالغ من الاجتماعات المتتالية المرتبطة بهذا الأمر رافضًا المشاركة في هذه المسألة، التي وصفها رئيسه مساوات درويش أوغلو بأنها “خطة للخيانة”، كما هاجم أوميت أوزداغ رئيس حزب النصر المعروف بعنصريته تحالف الحكومة الذي يضم حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، هجوما لاذعا واصفا إياه بـ”تحالف العار”، الذي يسعى لوساطة رجل مجرم تسبب في مقتل أكثر من 40 ألف شخص، في إشارة إلى أوجلان.
وبينما يجري ذلك في الداخل تتواصل تصريحات تهديد المسؤولين الأتراك للعناصر الانفصالية المسلحة في الشمال السوري، التي لم يعد أمامها -وفق تصريحاتهم- من سبيل سوى ترك السلاح ومغادرة المناطق التي تسيطر عليها، أو القضاء عليها بالعملية العسكرية التي تزمع أنقرة القيام بها هناك. وتؤكد تلك التصريحات رفض تركيا المطلق لأي سياسة يمكن أن تسمح لوحدات حماية الشعب بالاحتفاظ بوجودها في سوريا، وعلى جميع الأطراف أن تجري حساباتها على هذا الأساس كما قال أردوغان.
الاستعداد لعملية عسكرية موسعة
وفي إطار الاستعدادات التركية للعملية العسكرية الموسعة، التي تشمل شمال سوريا وجبال سنجار وقنديل في العراق، جاءت زيارة رئيس وزراء كردستان العراق مسرور بارزاني لأنقرة تلبية لدعوة تلقاها من الرئيس التركي، للتشاور بشأن حجم العملية وتحديد المواقع التي سيتم استهدفها.
بالطبع لم تتم دعوة مسرور البارزاني لأنقرة لطلب دعمه العسكري ومساعدة قوات البشمركة في العملية العسكرية المرتقبة، فتركيا ليست بحاجة إلى دعم عسكري، لكنها تهدف من خلال هذا اللقاء إلى تنسيق المواقف، وتوظيف علاقات حكومة كردستان الجيدة مع المجلس الوطني الكردي السوري لحثه على المشاركة في النظام السوري الجديد ممثلا عن أكراد سوريا.
وذلك تحقيقًا لهدفين أولهما قطع الطريق على حزب الاتحاد الديمقراطي الموالي لحزب العمال الكردستاني، وسد الذرائع أمام القوى الغربية الداعمة للعناصر الكردية المسلحة في الشمال السوري خاصة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، لحثها على وقف كافة أشكال الدعم الذي تقدمه لها.
مكاسب آنية وأخرى مستقبلية
أعلن عبد الله أوجلان موافقته على ما جاء في مبادرة الائتلاف التركي الحاكم، واستعداده لاتخاذ الخطوات الإيجابية الضرورية للمساهمة في صنع السلام الكردي التركي، معتبرا أن تعزيز مبادئ الأخوة بين الأكراد والأتراك مسؤولية تاريخية يجب على الجميع تحملها، وأن إنهاء التدخلات الخارجية في المسألة الكردية أصبح أمرا ضروريا لحلها.
وهي موافقة عززت موقف الدولة التركية على الصعيدين السياسي والعسكري، فقد أحرج أوجلان الدول الغربية الداعمة للمواجهات المسلحة بين الأكراد والدولة التركية، ووضعها في موقف لا تحسد عليه، إلى جانب أن موافقته بصفته الأب الروحي والزعيم المؤسس لحزب العمال الكردستاني على المبادرة التركية وضع قيادات الحزب في كل من سوريا والعراق في موقف صعب، فإما الموافقة على المبادرة التي وافق عليها زعيمهم، وإنهاء المواجهات المسلحة، وإما رفضها.
الأمر الذي يعني حدوث انقسام داخل حزب العمال الكردستاني؛ مما سيمنح تركيا شرعية مطلقة في مواجهة مجموعة من المتمردين الخارجين على الدولة، وتوجيه ضربة عسكرية لهم بهدف القضاء عليهم بعد أن يتم العفو عن الذين سيستجيبون لدعوة أوجلان ويلقون السلاح.