المقاومة والانتصار الأخلاقي الكبير | المقالات والدراسات
لم تسجل حادثة واحدة من الاعتداء على الأسرى، نساء ورجالا، وعلى مستوى الجنود كذلك.
بمجرد الانتهاء من اتفاق وقف إطلاق النار، وتوقف الحرب في غزة، اشتعل النقاش ولم يهدأ، بين من يرى أن النصر كان حليفا للمقاومة في غزة، ومن يرى أنها لم تنتصر، بل منيت بشر هزيمة، وكل له مقاييسه المادية أو المعنوية في علامات النصر، ومقاييسه ومعاييره.
لكن هناك مساحة من النقاش لم يقترب منها المختلفون، وهي انتصار لا يمكن لأحد أن يختلف حوله، حيث بدا للعيان جميعا، للقريب والبعيد، العدو والصديق للمقاومة معا، وهو: الانتصار الأخلاقي الكبير للمقاومة، ولم يكن مشهد خروج الأسيرات الثلاث في أولى مراحل الاتفاق لوقف الحرب، سوى أحد معالم هذا الانتصار، وإن كانت هناك مشاهد أُخر أكثر وضوحا، وأشد دلالة على مدى تحلي المقاومة بمحاور مهمة حققت فيها انتصارا ملموسا ومشهودا، لا تخطئه العين المنصفة.
انتصار أخلاقي وديني وتنظيمي:
لقد حققت المقاومة الانتصار على أكثر من مستوى من حيث الالتزام، سواء على المستوى الديني، والأخلاقي، والتنظيمي، وهي مستويات عند مقارنتها بنظم أُخر عسكرية أو سياسية لا يمكن أن تصمد في المقارنة، ولو ذهبنا أيضا للمقارنة بنظم غربية تعلي من شأن حقوق الإنسان في السلم والحرب، فإن الحديث النظري كان له شأن، بينما الواقع العملي والممارسة كان لها شأن مناقض تماما.
وهذا ما يفسر لنا سر رفض الكيان الصهيوني هذه المرة، لإجراء أي أسيرة أو أسير حديثا إعلاميا، لأنه يكشف عن مدى هذا الانتصار الأخلاقي والديني والتنظيمي، وهو ما يندر وجوده في الجيوش، وبخاصة في زمن الحروب، في ظل وجود بطش وتوحش من جيش العدو، وفي ظل كم الدمار وآلة القتل، مما يجعل المقاتل يفقد صوابه، ولا يخضع لقرارات أو أوامر أخلاقية أو تنظيمية، فما يجري يفقد الحليم صوابه وعقله، ولذا حرص الكيان على منع هذه اللقاءات أو إجراء أحاديث إعلامية، لأنها كانت وستكون كلها لصالح المقاومة بكل المقاييس والمستويات.
ثبات وتضحية أخلاقية نادرة:
إن أحدًا لن يستطيع أن يتخيل القدر الكبير الذي تحلت به المقاومة وأفرادها، من الالتزام الخلقي تجاه الأسرى، لكن لنتخيل أنفسنا ولو للحظة مكان المقاوم الذي وظيفته رعاية أسرى الكيان، فهو في مكان تحت الأرض، أو في أي مكان يحتفظ بالأسرى فيه، ونحن نعلم أن العدو لم يترك عائلة، ولا بيتا في غزة دون استهداف، فحين يستحضر الإنسان أن بيديه أشخاصا ينتمون لهذا الجيش، وهو يقوم بقتل واعتداء ونسف الحجر والبشر في غزة، فحين تكون في الأنفاق، ومعك أفراد من العدو، وفي الأعلى عدو يفعل كل موبقات الحروب في أهلك وبلدك، ولا يدفعك ذلك للانتقام ممن في يدك، فهي مقدرة كبيرة جدا على الانضباط، وعدم الانجرار، خاصة ما يقوم المقاتلون في الجيش الصهيوني من بث “فيديوهات” وصور، تبرز دناءة أخلاقهم في التعامل مع بيوت الغزاويين.
ومع ذلك لم تسجل حادثة واحدة من الاعتداء على الأسرى، نساء ورجالا، وعلى مستوى الجنود كذلك، كما رأينا في نموذج جلعاد شاليط، فربما نفهم هذا الانضباط من عدم التجاوز مع الأسرى، على مستوى المدنيين، لكن على مستوى العسكريين كذلك، فهي مسألة جديرة بالتأمل، وجديرة بالإشادة عن جدارة واستحقاق أخلاقي وديني وتنظيمي معا.
لقد تحدثت إحدى الأسيرات، فقالت: إن جنود المقاومة، كانوا عندما يحدث هجوم من الجيش الإسرائيلي، كانوا يحموننا بأجسادهم، وهنا يتجلى جانب مهم في هذه الأخلاقية، وهو مدى حرص المقاوم على حياة الأسير، لأنه في حمايته أولا، ولما يمثله من أهمية كبرى، حيث إن الأسير يفتدى بحوالي ثلاثين شخصا، فهنا يقدم حياته ثمنا وفداء لحياة أسرى في السجون، وهنا سمو أخلاقي كبير جدا، فربما يقدر الإنسان تضحية جندي لأجل حياة جندي صديقه معه في الجيش نفسه، لكن التضحية بحياته، لأجل حماية أسير من العدو، سيكون سببا لفك أسرى آخرين في سجون الاحتلال، فهذا نموذج أخلاقي نادر في زماننا.
أخلاق المقاومة مع الخونة:
وذلك رغم طريقة الحسم التي تعاملت بها المقاومة مع الذين يقومون بالخيانة لأوطانهم، أو الذين استأجرهم الاحتلال لسرقة أطعمة ومواد إغاثية من المقاومة وأهل غزة، بقصد كسرهم وإضرارهم، ونفاد صبرهم وثباتهم، فتعاملوا بكل حسم، ومع ذلك حافظوا على تماسك هذا المجتمع، فكان الخائن لا يعلن عن خيانته، بل يترك ليذكر اسمه بين الشهداء، حتى لا يؤدي ذلك إلى جرح مشاعر العائلات التي ينتمي إليها هؤلاء، وهو مجال وسياق أخلاقي لم ينل حقه من التنويه والكتابة والتدوين، فالكثيرون يهتمون في الحروب بالجانب العسكري والمادي، متناسين الجانب المعنوي والأخلاقي للأسف.
العجيب أن الذين يهاجمون المقاومة من كتاب يتبعون دولا عربية، ويتهمونها بالفشل والهزيمة، لا يلتفتون لهذا الجانب، بل يتهمونها بعدم الأخلاقية، لأنها قامت بالحرب دون مشورة للشعب، وأنهم كانوا بمنأى عن مضار الحرب، وهو كلام لا ينتمي للواقع بصلة، لأن إحصاءات الحرب أثبتت أن قادة المقاومة كلهم كانوا مشاركين بعائلاتهم وأسرهم في الشهداء والجرحى، بل استشهد عدد منهم سواء داخل غزة أو خارجها.
والأعجب، أن هؤلاء الطاعنين ينتمون لدول لا تحترم الإنسان، ولا حقوقه، وأبشع انتهاكات لحقوق الإنسان تحدث في بلدانهم.