المقاومة الفلسطينية المفترى عليها | المقالات والدراسات
جاء اتهام الرئاسة الفلسطينية، لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالتخابر مع جهات أجنبية، على خلفية المفاوضات مع مبعوثين أمريكيين، حول وقف القتال في قطاع غزة، ليضيف إلى جملة الاتهامات السائدة، فصلًا جديدًا من فصول الافتراء والتضليل، الموجهة إلى المقاومة بشكل عام، إلا أن الأمر هذه المرة، جاء في إطار درامي، وقد يكون كوميديًّا من وجهة نظر البعض، لأنه جاء من السلطة، وما أدراك ما السلطة!
من المفترض أن تؤازر السلطة الفلسطينية الرسمية، حركة حماس في جهودها نحو إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين، من سجون الاحتلال، بعد سنوات طويلة من الإهمال والنسيان، بلغت أكثر من 40 عاما لدى بعضهم، وعدة مؤبدات لدى بعض آخر، مع الوضع في الاعتبار تلك الأعداد الكبيرة من النساء والأطفال، الذين قضوا في سجون الاحتلال أعوامًا عديدة، دون أن تحرك السلطة ساكنًا.
اتهامات ما تسمى بالسلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية، لحركات المقاومة الفلسطينية عمومًا، لم تتوقف يومًا ما، لمجرد أنها تقاوم الاحتلال، في الوقت الذي استسلمت فيه السلطة لإرادة الكيان الصهيوني، وتوقفت عن أي جهود سياسية أو غير سياسية، عدا إدانة المقاومة، وأحيانًا الإشادة بسلوك الاحتلال على لسان رئيس السلطة، بالتزامن مع عمليات تعاون أمني، تترصد في المقام الأول عناصر المقاومة، التي تستهدفها السلطة نفسها، إما بالمطاردة والقتل، وإما بالاعتقال والتسليم للمحتل، وهو ما جعلها على أرض الواقع تمثل عبئًا على القضية، بدلًا من أن تكون سندًا للمقاومين، الذين ضحوا بأرواحهم وأرواح ذويهم، فداء للقضية.
المؤكد أن المقاومة الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه، حيث تنهال عليها الاتهامات من كل حدب وصوب، بالداخل والخارج، سياسيًّا ودينيًّا، خصوصًا من جماعات متشددة طائفيًّا، تعيب على المقاومة التعامل مع إيران، على سبيل المثال، حتى لو كان الأمر يتعلق بمساعدات عسكرية، في الوقت الذي تعاني فيه المقاومة من حصار خانق من معظم دول المنطقة، يشمل الشعب الفلسطيني كله، وليس المقاومة فقط، وقد بلغ الأمر أن هناك من العواصم العربية، من غضب على المقاومة بقطع العلاقات، للسبب نفسه.
الأخطر من ذلك، أن التعامل عربيًّا، مع المقاومة الفلسطينية في حد ذاته، يمكن أن يكون أمرًا مستهجنًا في بعض البلدان العربية، يصل إلى حد الاتهام بالتخابر، كما حدث مع الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، الذي حوكم بتهمة التخابر مع منظمات أجنبية خارج البلاد، في إشارة إلى حركة حماس، ثم توفي خلال إحدى جلسات القضية، في 17 يونيو/حزيران 2019، بينما حُكم على 36 متهمًا آخرين في القضية ذاتها، بأحكام تراوحت بين المؤبد والمشدد، في مقدمتهم قيادات جماعة الإخوان المسلمين.
تأثير عالمي للطوفان
ولم تسلم المقاومة الفلسطينية بالطبع، من اتهامات وافتراءات النخب السياسية والاقتصادية المختلفة في العالم العربي، خصوصًا “المتأمركة والمتصهينة” منها، بعد أن أصبحت كغثاء السيل، خلال السنوات الأخيرة، بفعل عمليات التطبيع المتسارعة، التي تزامنت مع عمليات تغيير شاملة للمناهج الدراسية، من خلال مخططات واضحة المعالم، أفصحت عنها المخابرات الأمريكية تحديدًا، في أكثر من مناسبة، في إشارة إلى أن الهدف النهائي هو دحض القضية الفلسطينية تمامًا لتصبح من الماضي، أمام الأجيال الجديدة، إلا أن عملية طوفان الأقصى، التي قامت بها حركات المقاومة الفلسطينية مجتمعة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 جاءت لتنسف ذلك المخطط من جذوره، ليس على المستوى العربي فقط، بل على المستوى العالمي أيضًا.
لا خلاف على أن القضية الفلسطينية، هي الأكثر عدلًا في التاريخ الحديث، ومن ثَمّ كانت المقاومة الفلسطينية هي الأكثر شرعية بلا منازع، خصوصًا في ظل انسداد الأفق السياسي، على مدى 76 عامًا، هي عمر الاحتلال، الذي توّجه في العام الماضي، قرار الكنيست، فيما يشبه الإجماع، برفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة، على أي جزء من أرض فلسطين المحتلة، وهو ما لا يدع أمام الشعب الفلسطيني أي خيار آخر، سوى المقاومة المسلحة للاحتلال، الأمر الذي لا يتعارض مطلقًا مع القوانين والمواثيق الدولية.
بالتأكيد سوف يقاوم كيان الاحتلال -أيّ احتلال- كل الأطروحات المتعلقة بالمقاومة -أيّ مقاومة- ويعمل على تشويهها، إلى أن يصبح هناك توازن في القوة بأي شكل من الأشكال، من خلال تكبيده خسائر فادحة في الأفراد والمعدات، فيصبح الاعتراف بالمقاومة، أمرًا طبيعيًّا، يحتم الجلوس على مائدة مفاوضات، للتوصل إلى صيغة حل مقبول للطرفين، يتضمن بالدرجة الأولى، الانسحاب من الأراضي المحتلة، كما هو شأن الاستعمار في كل القارات، خلال النصف الثاني من القرن العشرين بشكل خاص، وكان آخر المستعمرين هو الكيان الصهيوني، على أرض دولة فلسطين، وأراضٍ عربية أخرى، في كل من لبنان وسوريا.
اعوجاج بوصلة السلطة
نظرًا إلى وضوح الرؤية تمامًا حول كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وبشكل خاص أهداف المقاومة بكل فصائلها، فإن الجدل في بعض الأروقة العربية ووسائل الإعلام، حول شرعية المقاومة أو عدمه، أصبح أمرًا مقززًا، تقوده عناصر بعينها، دينية وسياسية، لأسباب معلومة، ويصب في صالح العدو، الذي أجبرته المقاومة على التفاوض والانصياع، تحت ضغط شعبي عالمي، آخذ في التحول، لصالح الحق الفلسطيني، بعد عقود طويلة من التغييب، وهو ما أسفر في نهاية الأمر، عن ذلك التحول الإيجابي، بالتفاوض المباشر مع الإدارة الأمريكية، لأول مرة في التاريخ، إلا أن اعوجاج بوصلة السلطة الرسمية الفلسطينية، نحو القضية، والأرض، والاحتلال، والأسرى، أسفر عن ذلك الموقف الأكثر اعوجاجًا.
ربما كان الالتفاف الشعبي العربي، حول المقاومة الفلسطينية، خلال شهور المواجهة الخمسة عشرة الأخيرة مع قوات الاحتلال، هو أكثر ما أرّق سلطة محمود عباس في رام الله، خشية سحب البساط من تحت أقدامها، ثم جاء الحوار الأمريكي مع ممثلي المقاومة، ليثير الرعب في النفوس الضعيفة، التي لا يشغلها إلا الاستمرار على كرسي هشّ، لم يقدم للقضية إلا الخنوع والخضوع والاستسلام، مقابل منافع مادية وشكلية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وإلا فما معنى وجود سلطة على مدى أكثر من 30 عامًا، بلا هدف، ولا مشروع سياسي أو نضالي، تُوجّه إليها الاتهامات بالفساد والتربح، من الصديق والعدو في آن واحد.
تحية تقدير لمقاومة الاحتلال في كل زمان ومكان، وتحية إجلال للشهداء، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بقضية العرب الأولى، بل قضية أحرار العالم كله، قضية الضمير الإنساني، فما ضاع حق وراءه مطالب، وهو ما لا يعيه المنبطحون، سياسيين كانوا أم انتهازيين أم طلاب سلطة، ويظل المجد للمقاومة، والشرف للشهداء.