التهجير والتطهير.. عروض لا تعرف القضية!
تثيرعودة مئات الآلاف من الفلسطينيين النازحين على امتداد الساحل من جنوب غزة إلى شمال القطاع المنكوب مشاعر متناقضة، حيث تنقلت القنوات التليفزيونية بعدساتها بين أفواج العائدين، لتكشف ردود أفعال مختلطة تتأرجح بين الفرحة بالرجوع والحزن على فقدان الأقارب والبيوت، بين بشارات الأمل بعودة الحياة شبه الطبيعية بين الأنقاض والركام، وبين التوجس من عودة الحرب التي لم تتوقف رسميًا رغم جهود الوسطاء.
بدأ موسم العودة إلى الشمال بعد خمسة عشر شهرًا من النزوح في مشاهد نادرة هي الأولى لعودة فلسطينيين لأرض هُجروا منها منذ أحداث النكبة الكبرى عام 1948 والتي شهدت أبشع وأوسع عملية تهجير وطرد وإبادة قامت بها العصابات الصهيونية المؤسسة لدولة إسرائيل.
على امتداد ساحل غزة وسيرًا على الأقدام رصد الإعلام أمواجًا من البشر راجلين يسعون كأنهم في الطريق إلى عرفات لإكمال مناسك الحج، أو لأداء فريضة العودة للأرض في تحد مقدر، بعد أن منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي استخدام وسائل النقل في طريق الرشيد الساحلي مستمرة في تعنت مقيت غرضه الوحيد زيادة المعاناة ومضاعفة الأوجاع ورفع كلفة الرجوع على السكان الصامدين والمتمسكين بأرضهم حتى الموت.
خيال الرئيس
لا يفهم “دونالد ترامب” رجل الأعمال الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثانية تعقيدات القضية الفلسطينية التي تشابكت عبر عقود منذ نشأة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية عام 1948 وربما لا وقت لديه لفهم تفاصيل المشهد في غزة، الذي تكونت ملامحه البائسة منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023 فتأتي تصريحاته متسرعة عشوائية محلقة في فضاء خيال عابث لا تراعي حقا ولا تتبنى لغة الدبلوماسية من قريب أو بعيد ولا تعرف شيئا عن الحقائق المرتكزة على الأرض.
لا يحاول الرئيس العائد للبيت الأبيض بعد ابتعاد لمدة سنوات أربع أن يدعي أن بلاده تقوم بدور الوسيط في الصراع العربي الإسرائيلي بل إنه نسي مسألة الوساطة ليتبنى منطق المتحكم الآمر الناهي، فيطلق آراء شاذة لا تراعي حتى المعلن من سياسات بلاده ولا المنظمة الأممية التي تحتضنها ولا حتى توجهات الحلفاء والفاعلين في المجتمع الدولي.
الأثمان المدفوعة
بعد عشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الفاشي على غزة وبعد مئات الآلاف من الجرحى والمرضى والمشردين وبعد مدن ومخيمات خربتها آلة الحرب الأمريكية بأيد إسرائيلية يعتقد الرئيس الأمريكي أن الأثمان الفادحة التي دفعها الشعب الفلسطيني لا تكفي كمكافأة للدولة العبرية التي يعتقد أنها واحة الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط وأنها قوة لازمة لمجابهة الإرهاب، وأنها الحافظ الأمين لمصالح بلاده في المنطقة التي تعج بالصراعات والاضطراب.
باستهتار واضح يرى الرئيس الأمريكي أنه يمكن تهجير سكان غزة إلى مناطق بديلة في مصر والأردن، وأنه طلب وسيطلب ذلك من الدولتين لحل معضلة القطاع الذي يؤرق إسرائيل ويسبب لها هاجسًا أمنيًا على حدودها.
الرئيس الأمريكي استخدم مصطلح “التطهير” في سياق حديثه عن تهجير السكان من غزة في تبنٍ لأطروحات غلاة اليمين المتطرف في دولة إسرائيل، والتطهير مصطلح له دلالات أمنية وجنائية إذ يستخدم دائما للإشارة إلى النجاح في القضاء على البؤر، والأوكار، وتصفية جيوب التمرد، والجريمة والعنف، والمخدرات، وحرب العصابات، كما يستخدم عسكريًا لتوصيف أي معقلٍ لمقاومة مسلحة تم وأدها بالقوة.
الصفقة
يعتقد الرئيس الخبير في عالم المال والأعمال أنه يستطيع تقديم حزمة حوافز للسكان الذين سيوافقون على ترك غزة والرحيل عنها، وأنه سيقدم إغراءات للدولتين (مصر والأردن) اللتين يتصور أنهما سيقبلان خطته للتهجير الممنهج، وأن صفقة على غرار ما يعقده في عمله الخاص كفيلة بإنهاء الأمر وهو تبسيط مخل واستخفاف بحياة ومصالح ملايين الفلسطينيين في غزة وخارجها.
يتصور الرئيس الملياردير أن الفلسطينيين سيتركون بحر غزة والمخيمات من أجل حمامات السباحة والمنتجعات التي يمكنه توفيرها لهم في أي مكان بعيدا عن أرضهم، وأنه يمكن أن يوجد لهم وطنا بديلا ينسيهم أن قسما كبيرا منهم هم أبناء وأحفاد المهجرين منذ النكبة وأن لهم حقوق تاريخية لا تسقط بالتقادم.
ليست الحاجة لإعمار القطاع المدمر واستعادة مقومات الحياة فيه هي الدافع لنقل السكان مؤقتا، فالرئيس المثير للجدل أجاب بوضوح عن تساؤلات الصحفيين حول مدة النقل قائلا إن هذا يمكن أن يكون مؤقتا أو على المدى الطويل ومفهوم أن الخيار الثاني هو المعقود عليه النية إسرائيليا وأمريكيا.
الخيام هي الحل
منذ بدأ الحديث عن مخططات التهجير بعد عملية “طوفان الأقصى” اتضح حجم الرفض الشعبي الفلسطيني، وتمسك السكان النازحين بالعودة لديارهم حتى وإن كانت أطلالًا خربة بلا ماء أو كهرباء.
حمل الفلسطينيون أغراضهم البسيطة بعد بدء سريان الهدنة، وعادوا مفضلين الإقامة في خيام غزة أمام بيوتهم المهدمة عن الذهاب لتجمعات سكنية في أي دولة قريبة أو بعيدة، ستضع قضيتهم في طريق ذهاب بلا عودة.
السلطات المحلية في غزة أعلنت أن هناك احتياجًا لإدخال 135 ألف خيمة للقطاع لتلبية احتياجات السكان الذين عادوا من مناطق النزوح إلى ركام بيوتهم، وهو إعلان يؤشر لاختيار الفلسطينيين الحاسم الذي يفضل أن تكون الخيام هي الحل وليس التهجير والتوطين في بلدان أخرى.
التفاف وطني
رد وزارتي الخارجية في مصر، والأردن على تصريحات الرئيس الأمريكي حول التهجير أو التوطين لسكان غزة كان قويًا وحاسمًا، وقد تسبب “ترامب” دون قصد بالطبع في حدوث التفاف حول قيادتي البلدين وفي استنفار شعور وطني لرفض مخططات التهجير سواء من الدوائر الرسمية أو من أطياف المجتمع المدني في البلدين.
لا يمكن وصف مجمل رؤية الرئيس الأمريكي المدان بارتكاب جرائم في بلاده إلا بأنها عروض قميئة تصدر من أفواه وقحة اعتادت فحش القول، دون اعتبار لقيم أو حقوق والحاصل أن تصريحات “ترامب” الشعبوي تنطوي على جرائم أكبر مما ارتكبه سابقًا وتشمل الدعوة للتطهير العرقي والتمييز وتقنين الاحتلال ونزع الأراضي مما يؤدي فعليًا لتصفية القضية الفلسطينية.
جاءت دعوة “ترامب” لتهجير الفلسطينيين مغلفة بالضغط والتهديد بالأسلحة الأمريكية بعد أن استهل ولايته بالسماح لإسرائيل بالحصول على قنابل ثقيلة، كانت إدارة سلفه “جون بايدن” قد علقت إرسالها لإسرائيل قبل أشهر بسبب استخدامها في الحرب التي تشنها على غزة، كما أنه هدد بعد انتخابه بأن جحيما ينتظر غزة إذا لم توافق المقاومة الفلسطينية على الهدنة.