الأسبوعان الأكثر ضررًا في تاريخ الرئاسة الأمريكية
هل يُعَدُّ تصريح دونالد ترامب الأخير “لا داعي للعجلة” تراجعًا بدرجة ما عن مقترحه الفجّ بتهجير أهل غزة؟ وهل يمكن أن نقول: إنّه -على وجه العموم- فيما يتعلق بالخارج قد لا يعطي اهتماما كبيرًا لما تعجل بإعلانه والتصريح به؛ بعد الردّ الغاضب من كثير من الأطراف، ولا سيما كندا وأخواتها ممن استهدفهم بتصريحاته العنترية؟ أيًّا ما كان الأمر؛ فإنّه على ما يبدو أنّ توجه اهتمام الرجل إلى الداخل الأمريكيّ قبل الخارج الدوليّ قد آتى ثماره بسرعة لم يكن أحد يتخيلها، فما الذي جرى في الفترة الوجيزة من عمر الأمة الأمريكية، التي بدأت في 20 يناير/كانون الثاني الماضي؟
الفزع يطل برأسه من نوافذ الصحافة الأمريكية
تحت عنوان: “الأسبوعان الأكثر ضررا في تاريخ الرئاسة.. الولاية الثانية لترامب تدور حول تقليص سلطة الحكومة” كتبت روث ماركوس -الخبيرة في الشؤون الأمريكية التي تكتب عمودًا في الواشنطن بوست- ما مفاده أنه لم يتسبب أي رئيس في التاريخ في حدوث المزيد من الضرر للأمة الأمريكية بسرعة أكبر مما وقع مع دخولنا الأسبوع الثالث من الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب، إذا كانت أمريكا قد نجحت في عهد الولاية الأولى لترامب في تجاوز الفوضى، فإنّ ما يجري اليوم يبدو غريبًا بالمقارنة بما مضى؛ إذْ تواجه أمريكا تهديدا حقيقيا؛ لأن الضرر الذي سيلحقها خلال الولاية الثانية لترامب سيكون غير قابل للإصلاح. إنّ مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، وقدرتها على الحفاظ على سلامة البلاد، والقدرة الأساسية للحكومة الفدرالية على العمل بفعالية، كل هذا سيستغرق سنوات لإصلاحه، هذا على فرض أنّه من الممكن تحقيق ذلك الإصلاح أصلًا.
ومن بين تلك الأبعاد الثلاثة الآنفة برز البعد الذي يترجح أنّ خطره سيكون مباشرا وعاجلا، وهو “الجهود المبذولة لتقويض الأداء الأساسي للحكومة”؛ وقد بدا من سيل القرارات أنّ الموضوع الموحد لكثير من نشاط ترامب منذ 20 يناير الماضي هو هجومه الواسع الذي لا هوادة فيه على القوى العاملة الفيدرالية، وإطلاقه العنان لهجوم غير مبرر على الموظفين المحترفين؛ بغرض الإطاحة بأولئك الذين لديهم سنوات من الخبرة، واستبدال العمال المهنيين المتمرسين وغير الحزبيين بالموالين، بمقتضيات الولاء وحسب.
نقلت الكاتبة عن ماكس ستير قوله: “إن ترامب يدمر كل ما يقف في طريق ما يريد القيام به، يشمل ذلك أن أصبح الولاء هو المعيار الأساسيّ لاختيار ملازميه المباشرين، ويتضمن سحق الخدمة المدنية وتحويلها إلى أداة لأجندته الخاصة، بدلا من كونها قوة من أجل الصالح العام وسيادة القانون”.
وتابعت الكاتبة: أكدت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارولين ليفيت أنّ ترامب “هو السلطة التنفيذية للسلطة التنفيذية؛ بما يعني أنّ لديه القدرة على طرد أي شخص داخل السلطة التنفيذية”، وتواصل: أعلن ترامب وحلفاؤه عن خططهم خلال الحملة الانتخابية، ومع ذلك كنت أتوقع أن تستغرق هذه الثورة شهورا حتى تتكشف، لكنّ المثير للدهشة أن كل شيء باستثناء آخر هذه الأمور قد حدث بالفعل… خلال عطلة نهاية الأسبوع، أجبر عملاء “DOGE” وزارة الخزانة على إخراج مسؤول كبير في الوزارة وتمكنوا من الوصول إلى نظام الدفع المركزي الحكومي الشديد الحساسية؛ مما قد يعرض كميات هائلة من بيانات الموظفين لخطر الانتهاك، وتضيف: “لقد نفذوا استيلاءً عدائيًّا وأغلقوا وكالة التنمية الدولية، وهي وكالة أنشأها الكونغرس ولا يمكن أن تختفي دون إجراء من الكونغرس… ذكرت وكالة رويترز أن مسؤولي “DOGE” منعوا موظفي الخدمة المدنية المهنية من أنظمة الكمبيوتر التي تحتوي على البيانات الشخصية لملايين الموظفين الفدراليين”.
وتقول الكاتبة: “أقال ترامب اثنين من ثلاثة مفوضين ديمقراطيين في لجنة تكافؤ فرص العمل، والرئيس الديمقراطي للمجلس الوطني لعلاقات العمل؛ مما سيمهد الطريق لتحدٍّ دستوري للوكالات المستقلة، وأقال ما لا يقل عن 15 مفتشا عاما، متجاهلا الشرط القانوني بأن يقدم إشعارا مدته 30 يوما إلى الكونغرس، إلى جانب تفسير لفعله، وفي وزارة العدل، أقال المدعي العام بالنيابة أكثر من 12 من المدعين العامين الذين عملوا لدى المستشار الخاص السابق في محاكمات ترامب، وتجاوزوا خطًّا أحمر خطيرا.
وبعد أن نقلت عن ستير قوله: “ما يحدث الآن هو تدمير للمؤسسة نفسها”، طفقت تحذّر: وإذا كنت تعتقد أنه يمكن إصلاحه بعد أربع سنوات فماذا إذا نجح ترامب في تطهير الحكومة من المعارضين ووضع الموالين مكانهم، فهل ستلعب الإدارة القادمة بقواعد المدرسة القديمة؟ أم سيكون لها ما يبرر الانخراط في استجابة “tit-f-tat” العين بالعين؟ لقد بدأ الضرر بالفعل، وسيكون من الصعب عكسه.
الدلالات الكبيرة والمآلات الخطيرة
قبل أعوام كتب يوهان جالتونج عالم الاجتماع صاحب التنبؤات الكبرى، الذي سبق أن تنبّأ بأحداث جاءت كما تنبأ، مثل الثورة الإيرانية والبريستوريكا وأحداث سبتمبر، قبل أعوام ليست بالقليلة تنبأ بزوال الهيمنة الأمريكية، وذلك قبل عام 2025م بعد غزو أمريكا للعراق، ثم عاد ليؤكد كلامه لدى تولي دونالد ترامب رئاسة أمريكا، في ولايته الأولى، وقريبًا عزف الكاتب الأمريكي نيال فيرجسون على القافية ذاتها عزفًا أكثر عنفًا في مقال له بعنوان: “لماذا لن تكون نهاية الإمبراطورية الأمريكية سلمية؟” ورد فيه: “قد يكون الوقت قد حان لمواجهة حقيقة فهمها تشرشل جيدًا، وهي أنه: نادرًا ما تكون نهاية الإمبراطورية عملية غير مؤلمة”، وقد تعرض المفكرون للأسباب المتعددة، وكان جوزيف ناي وفرنسيس فوكوياما أكثر المتوسعين في سرد الأسباب؛ ربما لأنّ تفاؤلهما بإمكان الإصلاح دفعهما إلى التوسع في سرد الأسباب كوصفة للعلاج، لكنْ هناك سبب -وهو الذي يلعب عليه ترامب الآن- يصعب علاجه، وهو ما عبر عنه فوكوياما بقوله: “فالمجتمع الأمريكي يسوده استقطاب حادّ… تَحَوَّلَ منذ ذلك الحين إلى صراع مرير حَوْل الهوية الثقافية”، وهو أيضًا ما عبر عنه باتريك بوكنان بقوله: “إنّنا بَلَدَان وشَعْبَان: أمريكا قديمة تموت، وأمريكا جديدة تنال ما تستحق”؛ فهل سيفعلها ترامب؟ غالبًا: نعم.